الخلفية التاريخية للعلاقات التركية الروسية والتركية الغربية.
نبهني الصديق موسى الطائي إلى مراجعة كتاب الصحافي الشهيد كامل مروة (1915 - 1966) : بيروت - برلين - بيروت وهي بصورة مذكرات عن رحلته تلك لفهم الخلفية التاريخية للعلاقات التركية الروسية, وهذا ما كتبه المرحوم كامل مروة (نقلا عن سياسي تركي وتحليلا ومشاهدة) عن الموضوع في حزيران/ يونيو 1941م:
من الصفحة 6 - 8 :
كانت حياتنا في أنقرة على وتيرة واحدة، تسير سيرها الطبيعي بلا انحراف ولا نشوز، كعجلات القطار. ومع ذلك فقد اضطربت أنقرة ذات يوم واهتزت على غير عادتها، واكتسبت بين عشية وضحاها حُلَّة الهرج والمرج. ففي صباح الثاني والعشرين من حزيران/ يونيو 1941م أي بعد وصولنا بعشرة أيام، هاجم الجيش الألماني روسيا. وإذا بالنبأ يسقط كالصاعقة على أنقرة فيوقظها من جمودها ويبعث فيها تلك الرعشة التي لم تفارقها حتى يومنا هذا.
كان ذلك اليوم على ما أذكر يوم أحد. وقد بقيت غارقاً في النوم حتى الساعة العاشرة. ثم خرجت لتناول الفطور فرأيت نائباً تركياً معروفاً من نزلاء الفندق مستنداً على الباب واجماً. وكنت أعهده مشرق الوجه دائم الابتسام، فسألته عن سبب وجومه، فأجاب:
- ألا تعلم؟
قلت: كلا، لا أعلم. ولكن ما تريدني أن أعلم؟
- لا شيء … لا شيء فعلاً، سوى أن الألمان بدءوا فجر اليوم هجومهم على روسيا.
إذن فقد وقعت الواقعة التي تحول وجه الحرب من أساسها، وتقلب كل حساب فيها رأساً على عقب. ورحت بدوري أتأمل وأفكر ثم قلت له:
- وماذا تخشى بلادكم من هذا الهجوم؟
قال: هذا الهجوم بلاءٌ علينا من جميع الوجهات والجهات. إنه نهاية حيادنا.
قلت: أتعتزمون إذن الدخول في الحرب إلى جانب الروس أو الألمان؟
- كلا، لا أعني ذلك. ولكنني أعني سياستنا ستصبح بعد اليوم "عبدة" الحرب بين الدولتين، تسير حسب سيرها، فتفقد بذلك استقلالها.
وراح الرجل يوضح رأيه. فقال إن مصلحة تركيا تتعارض مع مصلحة الدولتين فإذا ما فازت ألمانيا على روسيا سيطرت برلين على تركيا وفرضت عليها إرادتها كما تشاء، وإذا ما فازت روسيا فعلت موسكو الأمر عينه.
قلت: وماذا تريد إذن يا حضرة النائب؟
قال: أريد أن تستمر الحرب بين الدولتين إلى ما شاء الله أو تنتهي بصلح فيما بينهما. أما إذا انتهت بفوز إحداهما على الأخرى فإن التوازن في الشرق كله يضطرب، فتكون نهاية الحرب بين روسيا وألمانيا بداية وجع الرأس لنا. ومن يدري عندئذ المصير؟ نحن لا يهمنا دخول إنكلترا وألمانيا الحرب بقدر روسيا. إن تاريخ تركيا منذ ثلاثة قرون مقيد بتاريخ روسيا. فلم ندخل حرباً إلا ضد روسيا أو بسبب روسيا أو من أجل روسيا. لقد حكم وضعنا الجغرافي علينا أن نكون السد الوحيد الذي يمنع روسيا من التوسع نحو البحار الجنوبية، لذلك كنا –ولم نزل– نتأثر بسياسة موسكو قبل كل شيء. وأؤكد لك أننا لم نشعر بأي قلق خاص عندما وقعت الحرب بين ألمانيا وإنكلترا وفرنسا. ولكن دخول روسيا الحرب يؤثر علينا في الحاضر وفي المستقبل تأثيراً مباشراً، ويجعل مصيرنا مرة أخرى في كفة القدر.
ولَحَظ على شفتي ابتسامة تنم عن اعتقادي بمغالاته بالتشاؤم فقال:
- لا تضحك يا صديقي، كلنا في الهواء سواء. إن المدفع الذي انطلق صباح اليوم في بنسك ولفوف قد نسف الطمأنينة والاستقرار لا في شرق أوروبا فحسب، بل في الشرق كله، وبلادكم في المقدمة، فنحن نؤثر عليكم كما تؤثر روسيا علينا.
كم كان النائب مصيباً في آرائه يومئذ، فالاستقرار الذي نسفته الحرب الألمانية الروسية هَزَّ بزواله الشرق بأسره فانتشر القلق كانتشار بقع الزيت. وما أذربيجان وإيران، وقارص وأردهان، والمضايق واليونان، والوصاية على ليبيا، والمعاهدة المصرية، والجلاء عن سورية ولبنان، إلا صدى تلك القنبلة الأولى في صباح 22 حزيران/ يونيو 1941م.
========================
من الصفحة 9-12:
في السياسة الخارجية التركية مبدأ ثابت لم يتبدل منذ قرون، ولا يزال حتى اليوم ركنها الأساسي.
هذا المبدأ يَعتبرُ المطامع الروسية في المضايق الخطر الأكبر على تركيا. لذلك حيث تكون روسيا، تكون تركيا في المعسكر الآخر.
وفي اليوم التالي لإعلان الحرب، أي في يوم 23 حزيران/ يونيو 1941م، استدعى وزير الخارجية التركية السيد "سراج أوغلو" الصحافيين الأجانب ليتلو عليهم تصريحاً عن موقف بلاده.
وقد ذهبت معهم إلى ذلك الاجتماع بدافع الفضول، فإذا بالوزير يحدثنا عن الحرب والمتحاربين بلهجة جديدة، دَلَّت على أنَّ السياسة الخارجية التركية لبست في أقل من أربع وعشرين ساعة حُلَّة جديدة تناسب المقام.
ولكي يفهم القارئ نوع هذه الحُلَّة، يجب عليّ أن أعود به قليلاً –على ضوء ما سمعته في أنقرة إلى الأشهر القليلة التي سبقت إعلان الحرب. ففي ذلك الحين كانت تركيا تتبع سياسة الحياد التام تجاه الجميع.
وأرادت حكومة أنقرة الوصول إلى اتفاق حاسم مع السوفييت، فأوفدت "سراج أوغلو" إلى موسكو ليصارحهم بحقيقة الأمر، فلم يُحْظَ الوزير بنتيجة، وعاد إلى أنقرة صفر اليدين.
وكانت روسيا حتى ذلك الحين معزولة عن السياسة الأوروبية بسبب اتفاقية ميونيخ، فلم ير الأتراك ثمة مبرراً للانضمام إلى الجهة الإنكليزية –الفرنسية، أو إلى الجبهة المحورية؛ ما دام الروس بعيدين عن الجبهتين.
ولما راح الحلفاء يخطبون وُدَّ موسكو في صيف 1939م، اضطربت تركيا وأخذت تميل نحو ألمانيا.
ولكن ما كاد الألمان يعقدون الميثاق المعلوم مع روسيا في 22 آب/ أغسطس 1939م وتقع الحرب على إثره ثم تهاجم روسيا فنلندا وتكاد تشتبك مع الحلفاء، حتى بادر الأتراك إلى عقد ميثاق التحالف مع إنكلترا وفرنسا، إذ استقرَّت عندهم القناعة أن روسيا انضمت إلى الجبهة المحورية وأن الحلفاء أصبحوا خصومها.
وفجأة دار الفلك دورته واشتبكت ألمانيا بالحرب مع روسيا، وأصبحت روسيا حليفة إنكلترا، فوجدت تركيا نفسها بين عشية وضحاها حليفة الروس من حيث لا تدري ولا تريد.
وفي ذلك اليوم، 22 حزيران/ يونيو 1941م فَكَّر الأتراك طويلاً في حاضرهم ومستقبلهم، فانتهوا إلى النتائج التالية:
أولاً: لن تقلع روسيا عن المطالبة بالمضايق، فلا سبيل إذن لتبديل مبادئ السياسة التركية التقليدية تجاهها.
ثانياً: قد تنتهي هذه الحرب بفوز الحلفاء على ألمانيا. وعندئذ تستطيع تركيا الاعتماد على إنكلترا لحماية نفسها من التوسع الروسي. وفي التحالف القائم مع بريطانيا ما يضمن ذلك.
ثالثاً: قد تنتهي الحرب بهزيمة الحلفاء وحلول ألمانيا محل روسيا في الشرق، ولكن ليس بين تركيا وألمانيا من العقود ما يطمئن تركيا على مصيرها إذا تَحَقَّق ذلك.
إذن، ينبغي إكمال هذه الحلقة الناقصة بعقد اتفاق مع الألمان، شبيه بذلك الذي عقدوه مع الإنكليز. هذا ما قررته حكومة أنقرة في نفس اليوم الذي بدأت فيه الحرب الروسية –الألمانية، وهذا ما حققته بعد شهرين، عندما عقدت ميثاق عدم الاعتداء مع البارون فون بابن، فضمنت لنفسها العون من الإنكليز والألمان ضد الروس، في مختلف الاحتمالات والحالات.
ويتساءل الكثيرون: وكيف استطاعت تركيا أن تبقى على الحياد حتى نهاية الحرب؟
يعود الفضل في ذلك إلى رغبة الإنكليز والألمان أنفسهم. فقد اتفقت مصلحة الطرفين المتحاربين على بقاء تركيا على الحياد، إذ أن زجها في الحرب يومئذ مع هذا الطرف أو ذاك كان يفتح أبواب تركيا أمام الروس ليدخلوها كحليفة للإنكليز أو كعدوة للألمان.
وقد فضل الإنكليز والألمان معاً بقاء تركيا على الحياد على دخول الروس إليها، وكانت النتيجة أن بقيت تركيا بمعزل عن الحرب، ولم تعلن الحرب على ألمانيا إلا بعد أن أصبح الروس –وليس الألمان– على الحدود البلغارية في أوائل السنة 1945م.
مَرَّ الأسبوع الأول من الحرب الألمانية –الروسية دون أن يزعج أحد الطرفين الأتراك، فاطمأن بالهم موقتاً، وجلسوا يرقبون النتيجة.
ولم يعكر صفو هذا الأسبوع سوى خريطة نشرتها مجلة تركية طالبت فيها بتجميع الأراضي التركمانية التي يحتلها الروس، من القوقاس حتى بخارى وطشقند لإنشاء دولة طورانية بزعامة تركيا. فاحتج الروس عليها، ولا يزالون إلى يومنا يسجلون على الأتراك ذلك الطلب.
================
رابط لقراءة ونسخ فصول غير تامة من الكتاب بصيغة وورد:
http://www.almasalik.com/module.do;jsessionid=F7777FBC809036607C3C600A957C130F?moduleId=636&languageId=ar
رابط لتنزيل الكتاب كاملا بصيغة بي دي أف
http://ia600808.us.archive.org/23/items/2389732894/berwt-brlen-berwt.pdf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق