بقلم الشيخ علي خازم - مجلة اللقاء -2004-11-03
الإنحراف والفساد في مجتمعات المسلمين خصوصاً والبشرية عموماً ظاهرتان اجتماعيتان ، لهما مسار طويل في تاريخ المسلسل الإجتماعي ، ومرتكزات في تاريخ الإنسان مذ قالت الملائكة لرب العزة : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " .
وإذا ما قبلنا أن أساس الإنحراف أو الفساد الإجتماعي هو إنحراف أو فساد الأفراد في هذه المجتمعات ، فإننا نقبل أيضاَ أن لهما ، إجتماعياً تأثيرهما المباشر وغير المباشر على إفساد الأفراد لآحقاً ، ولعظم ثمرة هذا الإنحراف وخطرها في إفساد مسار الإجتماع البشري كله تكررت الآيات الإلهية المحذرة والمنبهة في القرآن الكريم مخاطبة للفرد تارة " فأنظر كيف كان عاقبة المفسدين " 103/7 وللجماعة تارة أخرى " .. وأنظروا كيف كان عاقبة المفسدين " 84/28 . وقد عبر القرآن الكريم عن خطورة أنواع من الفساد الفردي المؤثر على البشرية كلها ، كما في مثل قوله تعالى :" من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أن من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً .. " وفي القرآن الكريم أيضاً تقرير لتأثير الفساد الإجتماعي على الأفراد كما في قوله تعالى : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " .. الشورى 30 .
معاني الفساد الإجتماعي :
الفساد هو نتيجة للإنحراف ، لأن الإنحراف بمعنى أتباع السبل والإبتعاد عن صراط الله المستقيم يؤدي إلى الضياع والضياع يؤدي إلى التلف والهلكة وهما المعنى الحقيقي للفساد في الوجود الإنساني ببعديه الدنيوي والأخروي ، وكذلك هو في الوجود الكوني بمقابلة الفساد بالصلاح في حركة الكون كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله عز من قائل : " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون " 22/21 . ، فعلى المعنيين السابقين يكون العنوان العام المؤدي إلى الفساد الإجتماعي هو المعصية لله ولرسوله ، وهو المعنى الذي تفسر به الروايات الفساد ، ففي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر "ع" في قوله " ومنهم من لا يؤمن به " فهم أعداء محمد وآ ل محمد من بعده " وربك أعلم بالمفسدين " والفساد المعصية لله ولرسوله ، وعن ميسر أن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله عز وجل بنبيه "ص" فقال " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " .
الفساد الإجتماعي مفهوم متواطىء أم مشكك ؟
من المسائل التي يصعب الإجابة عليها بنحو جازم وبمعنى آخر هل نجرؤ أن نقصد بتعبيرنا " الصالح " عن مجتمع ما أنه لا يكتنفه أي فساد وبالعكس هل يخلو المجتمع الفاسد من أوجه الصلاح ، وبالمقارنة بين المجتمعات هل يمكن قياس الفساد الإجتماعي بشكل نسبي فنحكم بكون مجتمع ما أفسد من مجتمع آخر فيكون الوصف بالفساد من المفاهيم المشككة .
الظاهر من حالات المجتمعات البشرية إمكانية التشكيك من جهة وإمكانية التواطؤ من جهة ، لأنك إذا أخذت مفهوم الفساد بمعنى المعصية لله ولرسوله مطلقاً فالمجتمعات غير المحكومة بحكومة إلهية إسلامية هي مجتمعات فاسدة ولا معنى لمقارنتها بعضها ببعض .
وإذا ما أخذت المجتمعات من حيث التناصف بين الناس في الحقوق والخدمات وحجم الجرائم الإجتماعية ، أمكن التشكيك وبالتالي أمكنت المقارنة فيصح القول إن المجتمع الفلاني أفسد من المجتمع الفلاني .
والثمرة من هذه المسألة تظهر في أسلوب التغيير الإجتماعي الذي ينبغي إعتماده وهي مسألة تحتاج إلى تفصيل .
أسباب الفساد الإجتماعي :
قلنا إن الرواية عن أهل بين العصمة تفسر الفساد بالمعصية لله وللرسول ، وبالتالي فإن المجتمع الفاسد هو المجتمع الذي تسوده قيم وظواهر إجتماعية بعيدة عما أمره الله به ودعت إليه الرسالة ،وبالتالي فإن كل مخالفة لحكم من أحكام الله تصبح معصية بعنوان فردي ، ولكن إذا تلقاها المجتمع بالقبول أخذت صفتها الإجتماعية ، فعن رسول الله "ص" إن المعصية إذا عمل بها العبد سراً لم تضر إلا عاملها ،وإذا عمل بها علانية ولم يغيرعليه أضرت بالعامة ". وعن رسول الله "ص" أيضاً : " إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه ، فإذا فعلوا عذب الله الخاصة والعامة .
ومن أسباب الفساد الإجتماعي ، إختلاف الأمة الذي يتشعب إلى التفرقة والعصبية ورفض الحق لمجرد إتباع هوى النفس في الميل إلى جماعة أو أفراد معينين دون تكلف عناء النظر السليم في كل ما يدعى ، ومخالفة ما زرد في الحديث : " ما أختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر باطلها على حقها إلا ما شاء الله " .
ومن أسباب الفساد الإجتماعي عدم الرضا بتفاوت الإمكانيات والقابليات بين الأفراد وأفتراض التساوي في كل المجالات ، الأمر الذي يؤدي إلى الإعراض عن تبادل الخدمات بين أفراد المجتمع وهو الذي عبر عنه القرآن بقوله تعالى :" ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا " الزخرف /32 وفي حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "ع" " لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا إستووا هلكوا " .
رواية جامعة في الفساد العام وأسبابه :
روي أنه سئل أمير المؤمنين "ع" عن أحواله العامة فقال :
إنما هي من فساد الخاصة وإنما الخاصة ليقسمون على خمس : العلماء وهم الأدلاء على الله ، والزهاد وهم الطريق إلى الله ، والتجار وهم أمناء الله ، والغزاة وهم أنصار دين الله ، والحكام وهم رعاة خلق الله . فإذا كان العالم طماعاً وللمال جماعا فبمن يُستدل ؟ وإذا كان الزاهد راغباً ولما في أيدي الناس طالباً فبمن يقتدي ؟
وإذا كان التاجر خائناً وللزكاة مانعاً فبمن يستوثق ؟ وإذا كان الغازي مرائياً وللكسب ناظراً فبمن يذب عن المسلمين ؟ وإذا كان الحاكم ظالماً وفي الأحكام جائراً فبمن ينصر المظلوم على الظالم ؟ فوالله ما أتلف الناس إلا العلماء الطماعون ، والزهاد الراغبون ، والتجار الخائنون ، والغزاة المراءون ، والحكام الجائرون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
كيف يعالج الفساد ويدفع ضره ؟
بعد معرفة صفة الداء وأسبابه ، يكون بيان الدواء هيناً لكن الصعوبة تكمن في إستمرار العلاج ، ولقد تبين أن أساس الفساد هو الإنحراف عن دين الله والمعصية لله وللرسول فلا يكون أسهل علينا من إعتبار العودة إلى طاعة الله عز وجل علاجاً أساسياً وفعالاً في دفع الإنحراف والفساد ، ولكن كما نعرف من وقائع الحياة الإجتماعية أن المصالح تغلب هوى النفس على إتباع الرشد ، بل هي كثير من الأحيان تزين الباطل فتلبسه لبوس الحق والمعروف ، لتدلس به على العامة وهي تعرف الحق من الباطل .
ولو أن الله عز وجل يؤاخذ العامة بذنوبها مباشرة لما ترك على ظهر الأرض من مجتمع ، ولكنه سبحانه وتعالى يدفع ببعض عن بعض ويورث في المجتمعات ما ينبههم إلى ما كسبته أيديهم لعلمهم يرجعون إلى الحق فلو أنهم راقبوا لظلت أمامهم صورة قوله تعالى : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم : وكلام رسول الله "ص" لولا عباد ركع وصبيان رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا " ، ويبقى أن الدواء الأساسي هو العودة إلى التقوى أو إستعادة التقوى كحاجز عن إرتكاب المعاصي والمآثم كما قال أمير المؤمنين "ع" إن تقوى الله دواء داء قلوبكم وصلاح فساد صدروكم وطهور دنس أنفسكم .
" لو أن الناس حين تنزل بهم النقم وتزول عنهم النعم فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم ووله من قلوبهم لرد عليهم كل شارد وأصلح لهم كل فاسد" .
والحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق