الخميس، ديسمبر 18، 2008

نظرة في الصراع على المياه‏

مداخلة قدمت الى ندوة في مركز الدراسات الاستراتيجية – لبنان - 5/5/1994 الشيخ علي خازم
حُلَّت مشكلة المياه في العالم غير الاسلامي بوسائط منسجمة مع البنى الفكرية الحاكمة فيه، وقننت القضية ضمن مسائل ومصطلحات وثبتت بمعاهدات تفصيلية بينما ظل الاضطراب قائما في آسيا وافريقيا حيث تشتد الحاجة للمياه من جهة، ويشتد النزاع حولها من جهة اخرى. ولسنا نغفل عن كون اطراف هذه المشكلة ليست كلها دولا اسلامية(1) كما في افريقيا مثلاً , وكذلك بين باكستان والهند في كشمير. وعن كون جزء من المشكلة في العالم العربي من آسيا متعلق باغتصاب اسرائيل لاراض عربية، واستقدام يهود من انحاء العالم تبحث لهم في الواقع السياسي القائم عن حق في الشرب والشفة(2). ويلاحظ القارى‏ء للتاريخ الاسلامي ان المياه لم تكن سببا مستقلاً للحروب سواء في دار الاسلام نفسها، او بينها وبين الدول الاخرى. وانها انما شكَّلت في بعضها محورا من محاور الحرب فتعلقت احكام الفقهاء بها من هذه الناحية بالمقدار الذي استدعته لجهة البحث في جوازاستخدامها للتخريب على العدو او بقطعها عنه وما الى ذلك ‏(3). كما ينبغي ملاحظة ان تعدد الحكومات في دار الاسلام لم يمنع بقاء سلطة مركزية للفقيه والفقه في شأن المياه في جانب الحياة اليومية للمواطنين ، وهذه الملاحظة توضح كون الاحكام في هذا المجال وردت في صيغة مخاطبة المكلف الفرد، او المكلفين كأفراد، ولم تتعدَّ الى حالة التنازع بين الدول‏(4). فكيف ينظر المسلمون الى المشكلة وما هو تصور الحل؟

وحيث ان البحث يتصدى لمشكلة التنازع على المياه في منطقة لا تخرج بتصورنا عن كونها «دار الاسلام» فلا بد من تمهيد يتعلق بآثار التجزئة في العالم الاسلامي وما تبعها من تشكيل حكومات مختلفة لبيان حدود سلطة هذه الحكومات، والمدى الذي يمكن ان تبلغه في استقلالها وسيادتها على ضوء واقعها والتزاماتها الفعلية بالأطر والمؤسسات والهيئات الدولية كالامم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي.. الخ.
1- سلطة الفقه الاسلامي وتعدد الحكومات‏ :
ظلَّت سلطة الفقه في دار الاسلام مركزية مهما تعددت الحكومات وتخالفت (السلطنة العثمانية والشاهنشاهية الفارسية مثالاً). ولئن ناقش البعض في هذه الرؤية فانه لا ينفي ان انعدام تأثير مشيخة الاسلام (العثمانية مثلاً) في بعض نواحي العالم الاسلامي كان نتيجة لايجاد سلطة مركزية بديلة شكّلت جهازها الفقهي، فمهما اقترب الحاكم او ابتعد عن الالتزام الشخصي باحكام الدين، وكيفما تصورنا النزاعات الطارئة بين طالبي السلطة فانهم كانوا يتميزون بين موقفين: إما طلب امارة مستقلة عن ما حولها من الامارات او الولايات، لكن ضمن النظام السياسي الاساسي، واما الطموح الى ترؤس هذا النظام السياسي نفسه. ولم يشهد العالم الاسلامي الخاضع للسلطنة العثمانية بما هي استمرار للخلافة بشكل او بآخر نزعة استقلالية تدعي السيادة الكاملة بالمفهوم الحديث إلا ما ندر، ومع ذلك فانها شأنها في ذلك شأن بقية الدول الاسلامية المخالفة للسلطان العثماني ظلت «دار اسلام» باعتبار النظام العام‏(5) والانتماء. ولم يعرف العالم الاسلامي حتى انهيار السلطنة العثمانية، وما واكبه في ايران من سقوط الأسرة القاجارية على يد رضا خان، نغمة التفكيك بين الفقه الاسلامي والاحكام القانونية. لكن مع نفوذ السيطرة الاجنبية في انحاء الدولة العثمانية نفسها، وتقسيمها من ثم الى دول ذات سيادة، ومع نفوذ هذه القوى في الاقاليم الاسلامية غير الخاضعة للسلطنة كذلك، اتجهت هذه الدول الناشئة في دار الاسلام الى اعتماد دساتير خاصة بكل منها وتفريع احكام قانونية لا تعتمد بشكل كامل على الفقه الاسلامي. وان عدَّ اكثرها الاسلام دينا رسميا للدولة فانه لم يعتبره الا واحدا من مصادر التشريع. ان عدم اعتماد الدول المذكورة للحكم الاسلامي بشكل كامل عدا البعض منها لا يسمح باعتبارها دولاً غير اسلامية في المطلق، خصوصا مع التزام انظمتها بعضوية منظمة المؤتمر الاسلامي التي شكلت عام 1972، وبهذا الالتزام يجعل انتماءها للأسرة الدولية مرهونا بعدم التعارض مع مقتضيات عضوية منظمة المؤتمر الاسلامي. وهكذا، فان تعدد الحكومات بتعدد الدول المسلَّطة على دار الاسلام في العصر الحالي لم يخرج في الظاهر عن صورة التعدد التي عرفناها في التاريخ الاسلامي سابقا، وصارت منظمة المؤتمر الاسلامي وما اليها من مؤسسات اسلامية متخصصة اطارا جامعا وبديلاً للنظام السياسي الاساسي الذي كان يستقطب انحاء واقاليم مختلفة من دار الاسلام قديما. ولا نريد هنا تزيين هذا الحكم او ذاك، او تجاهل ارتباط انظمة سياسية بما يعادي مصالح المسلمين المحكومين منها، او من حولها، ولكننا و في معرض البحث الواقعي عن صورة المشكلة وحلِّها، ليس بيدنا إلا ان نأخذ هذه الدول بما التزمت به، ونحن نعرف ان بعض المعاهدات تعدَّ في القانون الدولي من مصادر التشريع‏(6) وهي في الاسلام كذلك ضمن الاعتبارات المرعية في اجرائها(7). وقد لاحظ بعض الباحثين في مجال القانون الدولي ثغرات عديدة اعاقت تشكيله واهمها « سيادة الدولة المطلقة» و«النزاعات العقائدية» و«الحكومات الثورية» فتنبأ ب«ان نظاما قانونيا اقليميا آخذ بالظهور والتبلور على حساب نظام قانون موحد على اساس عالمي»(8). ولعل التعاهد ضمن منظمة المؤتمر الاسلامي يساعد على تقنين حلول مشكلة الاستفادة من المياه ولعلها تساهم في حل مشكلات اطراف العالم الاسلامي بما تمليه الاتفاقيات والعقود من الزام مع غير المسلمين في هذه المسألة وهو ما سنشير اليه ب«قانون اقليمي اسلامي خاص بالمياه». ان اي تصور لحل معاصر يستحيل بتجاوز اعتبار الدول المتعددة في العالم الاسلامي دولاً اسلامية بالمعنى المذكور سابقا، او غاصبة محاربة على ارضه كما «اسرائيل» او دولاً معاهدة او محايدة في أطرافه. ولهذا الاعتبار كما ذكرنا اساسه التاريخي من حيث الشكل وله مناشى‏ء اخرى كالالتزام والمعاهدات التي أشرنا اليها. وان اي تغيير في طبيعة انظمة العالم الاسلامي وهو محتمل دائما لا يخشى معه من نقض هذا القانون الاقليمي الاسلامي لا مع المسلمين ولا مع غيرهم باعتبار الدليل العقلي والشرعي: « واوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولاً»(9). «الا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا، فأتموا اليهم عهدهم الى مدتهم، ان الله يجب المتقين»(10). وما يحذر منه البعض في اختلاف تصوير المصلحة يمكن ايجاد ضوابط له ومراجع لتحديده كهيئات مختصة للتحكيم. بهذا الطرح اذا يمكن تثبيت اي حل يقدم لعلاج اي مشكلة وخصوصا في ما نحن بصدده بين الدول الاسلامية نفسها وبينها وبين الدول الاخرى. أما الغاصب فقد أقرَّت جميع الشرائع ان لا حرمة له، ومهما حاولت القوى العظمى تسويقه كواقع قائم فانه يبقى كذلك. ولا تكون اتفاقات الدول الاسلامية معه ان عقدت ملزمة بأكثر مما تلزم به الهدنة مع المحارب كما تعرضت لها احكام الجهاد في الفقه الاسلامي. ان هذه الاتفاقات لا تؤسس واقعا جديدا تتغير معه صفة «الدولة» الغاصبة حتى ان صح في هذه الاتفاقات ما يعتبر في عقد الاتفاقات والعهود وفق الاحكام الاسلامية وهو بعيد(11). وغني عن التوضيح هنا اهمية المياه في البناء الاجتماعي عموما، وقد اعتبرها القرآن الكريم اساس الحياة: «وجعلنا من الماء كل شي‏ء حي»(12) فان هذه الصفحات غير معدَّة لتقديم الصورة الاسلامية الشاملة لمسألة المياه فغرضها كما هو واضح مقاربة الاحكام الفقهية(13)، وقد صيَّرتنا حال التجزئة للعالم الاسلامي الى ما نحن عليه من اختلاف وتنازع داخل الدولة الاسلامية نفسها، وبينها وبين بعضها البعض، وبينها وبين دول مجاورة، وبين بعضها والكيان الاسرائيلي الغاصب. فثمة مشكلات حول المياه وحقوق الاستفادة والاستخدام لها في انحاء العالم الاسلامي واطرافه من الهند واثيوبيا الى تركيا وضمنا المشكلة القائمة مع الاطماع الاسرائيلية. وبطبيعة الحال فان الشأن مع «اسرائيل» يختلف عنه مع الهند واثيوبيا وتركيا، فالاولى غاصبة ولها احكامها كما ذكرنا، والثانية والثالثةبين الحياد والمعاهدات،والرابعة حكومة مستقلة على جزء من العالم الاسلامي وعضو في منظمة المؤتمر الاسلامي. والى هنا يكون هذا التمهيد قد أوصلنا الى امكانية اعتبار الدول الاسلامية مستقلة في ادارة الثروات العامة ضمن دار الاسلام. فما هي احكام الاسلام في هذه الثروات، وفي المياه منها بشكل خاص؟
2- الثروات الطبيعية واحكامها في الاسلام‏ :
تؤكد الاحكام الاسلامية على اشتراك الناس في الثروات الطبيعية التي سخَّرها الله لهم بقوله تعالى: «وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا»(14). ولكن هذا الاشتراك يختلف من حيث الاحكام المترتبة عليه، باختلاف الثروة المبحوث فيها. وقد نظر الفقهاء الى هذه الثروات من جهات عدة:
أ - مكان وجودها .
ب- طبيعتها .
ج- الحاجة اليها.
فمن الجهة الاولى، بحث الفقهاء في ما وجد منها فوق الارض، وما وجد في باطنها، وقسَّموا الاخير الى ما كان قريبا من سطح الارض، وما له عروق عميقة(15). ومن الجهة الثانية بحثوا في ما يوجد منها مستقلاً، وما يحتاج الى عمل وجهد لكي يتميز عن غيره من المواد. ومن الجهة الثالثة بحثوا في ما لا يمكن الاستغناء عنه لبقاء الجنس البشري وما يعتبر من مصادر المعاش المتنوعة للناس دون ان تكون ضرورية. وهكذا اعتبر الشهيد السيد محمد باقر الصدر المصادر الطبيعية للانتاج:
1- الارض، وهي أهم ثروات الطبيعة.
2- المواد الاولية التي تحويها الطبقة اليابسة من الارض كالفحم والكبريت والبترول والذهب والحديد ومختلف انواع المعادن.
3- المياه الطبيعية التي تعتبر شرطا من شروط الحياة المادية .
4- بقية الثروات الطبيعية، وهي محتويات البحار والانهار من الثروات التي تستخرج بالغوص او غيره كاللألى‏ء والمرجان، والثروات الطبيعية المنتشرة في الجو كالطيور والاوكسجين، والقوى الطبيعية المنبثة في ارجاء الكون، كقوة انحدار الشلالات من الماء.. وغير ذلك من ذخائر الطبيعة وثروتها(16).
ولمَّا كانت هذه الثروات مسخَّرة للانسان كما ذكرنا، كان لا بد من تمييز احكام التسلط عليها بما يحفظ هذا الحق لكل انسان بما هو فرد له حاجاته الطبيعية وشهواته، وبما هو جزء من المجتمع الانساني الذي يجب ان يستمر في حال توازن. فجاءت الاحكام الاسلامية لتميز بين ما يقبل الملكية الخاصة وما هو غير قابل لها بحال‏(17) وبالتالي يكون واقعا تحت أحد العناوين التالية:
أ- ملكية الدولة: وتعني تملك المنصب الالهي في الدولة الاسلامية الذي يمارسه النبي او الامام على نحو يخوله التصرف في رقبة المال نفسه كتملكه للمعادن مثلاً.
ب- الملكية العامة: وتشمل:
- ملكية الأمة الاسلامية بعملها السياسي مثلاً للأرض المفتوحة.
- ملكية الناس ومقتضاها عدم السماح لفرد او جهة بتملك المال والسماح للجميع بالانتفاع منها كما في البحار والانهار الطبيعية.
- ملك الدولة الذي تعلق به حق عام للناس فلا يباح لولي الأمر التصرف فيه.
ج - الحق الخاص: اختصاص ناتج عن اختصاص آخر وتابع له في استمراره ولكنه لا يعطي حق حرمان الغير من الاستفادة بشكل تنظمه الشريعة.
د - الاباحة العامة: وهي حكم شرعي يسمح بموجبه لأي فرد بالانتفاع بالمال وتملكه ملكية خاصة والمال الذي تثبت فيه هذه الاباحة يعتبر من المباحات العامة كالطير في الجو والسمك في البحر. والكلأ في الارض المباحة(18). ولن نتعرض هنا لتفاصيل تعلق هذه الاحكام بموضوعاتها لننتقل الى غرضنا الاساسي وهو الحكم في المياه كثروة طبيعية.
3- المياه الطبيعية واحكامها :
لا خلاف بين المسلمين في اشتراك الناس بالماء لما رواه الفريقان عن رسول الله (ص) باختلاف يسير في اللفظ: «الناس شركاء في ثلاثة: النار والماء والكلاء»(19). «الناس شرع سواء في ثلاثة اشياء الماء والكلاء والنار»(20). ومؤدى هذا الاشتراك ان لكل الناس ان يستفيدوا من الماء على نحو الشركة الاباحية(21) دون تملك الرقبة، وبتعبير الشهيد الصدر هي من «المشتركات العامة بين الناس» التي تعتبر من «الملكية العامة»، فالمسلم وغيره في ذلك سواء لاجماع الفقهاء المسلمين، وأصل الاباحة، وعدم معارضة الحديث المروي عن الامام الكاظم عليه السلام: «ان المسلمين شركاء في الماء والنار والكلاء»(22)، وما رواه ابو داود وابن ماجة واحمد ابن حنبل «المسلمون شركاء في ثلاث، في الماء والكلاء والنار». ولا يتوقف هذا الاشتراك عند مصادر المياه السطحية بل يشمل «المصادر المكنوزة في اعماق الطبيعة التي يتوقف وصول الانسان اليها على جهد وعمل»(23) فاذا بذل الجهد والعمل في استخراجها صار للانسان حق الاولوية بها، اما لو بذل الجهد في حيازة ماء من المصادر السطحية فانه يملك ما حاز منها فقط. وقد مر معنا الفرق بين الحق والملك وخلاصة ان الحق لا يبيح لصاحبه منع المنفعة للآخرين مع قضاء حاجته من الثروة العامة، أما في الملك فلا يجبر صاحبه على ذلك إلا للضرورة(24).
وبهذا يظهر معنا ان ملك الماء يتصور بأحد الطرق الآتية:
1- الانتقال: كالبيع والهبة والارث لماء محرز او لبئر او ما اليها..
2- حفر البئر والوصول الى الماء.
3- احراز الماء المباح، بمعنى جمعه في وعاء او حوض‏(25) وفرّقوا بين الاحراز بقصد الانتفاع فانه يستحقه به، والاحراز بقصد الملك فانه يملكه به.
أما مورد الاباحة العامة للناس فهو ما عرف اصطلاحا ب«النهر العام» في مصادر الفقه الحنفي، او «النهر الكبير» كما في الفقه الشيعي، وكذلك بالبحيرات والانهار الصغيرة التي لم يجرها احد من الناس.
جاء في «المجلة العدلية»(26):‏ "المادة 1234: الماء والكلاء والنار مباحة، والناس في هذه الاشياء الثلاثة شركاء. المادة 1236: الآبار المعدَّة لانتفاع كل وارد، وليست محفورة بسعي شخص مخصوص وعمله هي من الاشياء المباحة والمشتركة بين الناس. المادة 1237: البحر والبرك الكبيرة مباحة. المادة 1238: ما ليس مملوكا من الانهار العامة التي لم تدخل في المقاسم يعني في المجاري المملوكة مباح ايضا كالنيل والفرات والطونة والطونجة".
وجاء في «تحرير الوسيلة»(27): "مسألة 24: ومن المشتركات المياه، والمراد بها مياه الشطوط والانهار الكبار كدجلة والفرات والنيل، او الصغار التي لم يجرها أحد بل جرت بنفسها.. وكذلك العيون المنفجرة من الجبال او في اراضي الموات، والمياه المجتمعة من نزول الامطار فان الناس في جميع ذلك شرع سواء. ويلحق بها الزائد من الماء عن حاجة الفرد."

وقد استوقفتني مسألة ترك الضوابط لتحديد النهر الكبير او النهر العام للأمثلة فلم يشر مثلاً الى طولها او قوتها او عمقها وما الى ذلك والامر نفسه يرد بخصوص البحيرات والانهار الصغار، او مسألة موقعها «حدودية» او «محلية» فانه يتضح بما ذكرناه في القسم الاول (حاشية رقم‏4). ويمكن اعتبار العرف او التاريخ مصدرا لتحديد كون النهر الكبير والبحيرات.. الخ من المشتركات. وقد ألحق الفقهاء بهذه المسائل ما يتعلق بها من حقوق فذكروا احكاما لحل التنازع بين الأفراد في الحقوق المترتبة كحق الشفة وهو شرب الانسان، وحق الشِرْب وهو نوبة الانتفاع من الماء لسقي الحيوان والزرع، وحق المجرى وهو الشق الذي تدار فيه الماء من المباحات العمومية الى ملك شخص معين فقالوا ببقاء القديم على قدمه فيها إلا مع الاعراض.
وحيث اتفق المسلمون على منع الضرر فقد بحثوه هنا في صور، منها:
- تحويل المياه المبتذلة الى الانهار والآبار.
- حفر آبار للمياه المبتذلة بقرب آبار الشفة والشرب.
- التعدي بحفر الآبار في حريم (مسافة) معين لكل من البئر وهي ما يستقى منها الماء بالدلو، والعين وهي التي يعين عنها الماء اي يظهر جاريا، والقناة وهي الآبار التي تحفر في ارض متتابعة ليستخرج ماؤها ويسبح على الارض، والنهر وهو الاخدود الذي يجري فيه الماء المتسع وهو فوق الساقية.
- كري الطين الذي يسد المجاري.
- شق الانهر الجديدة بما يغيِّر المجرى القديم للانهار او يضعفها.
ويمكن تصور وجوه للضرر تتعلق بالثروة المائية على مستوى الدول اليوم كما في احداث تغيير في الطبيعة مثل محاولات وصل البحار، وتشكيل احواض جوفية، او استخدام الاستمطار الصناعي. ومما لا بد من النظر فيه ايضا حدود المياه الاقليمية واحكام ضفاف الانهار وشواطى‏ء البحار المعبَّر عنها في المصطلح الفقهي بسيف البحر.
وقد أُعطي اهل الخبرة في حل هذه المشاكل دورا مهما على اساس الحدس الصائب، وانما كان ذلك حيث لم يكن الوصول اليه علميا ممكن‏(28)، وكذلك فان الشيخ كاشف الغطاء اعتبر المسافات المفروضة لعدم الاضرار بالآبار والعيون والانهار الموجودة في الكتب الفقهية والحديثية غير تعبدية بل مبنية على افتراضات عصورها فيمكن تجاوزها الى ما يقوله العلم‏(29).
ويبقى ان المباحات العامة من المياه السطحية مجعولة تحت تصرف الحاكم الشرعي ولا بد فيها من إذنه، فان التملك للمباح بالاحياء محصور في الارض الموات اذ هي مورد الحديث الشريف «من أحيا أرضا فهي له» عند من قال به من الجمهور والامامية اما مالك وابو حنيفة فقد قالا لا بد من اذن الحاكم»(30). ونص دستور الجمهورية الاسلامية الايرانية على ذلك :
«المادة 45: الانفال والثروات العامة مثل الاراضي الموات والاراضي المهجورة والمعادن والبحار والبحيرات والانهار وكافة المياه العامة، والجبال والوديان والغابات ومزارع القصب والاحراش الطبيعية، والمراتع التي ليست حريما لأحد والارث بدون وارث، والاموال المجهولة المالك والاموال العامة التي تسترد من الغاصبين: كل هذه تكون باختيار الحكومة الاسلامية حتى تتصرف بها وفقا للمصالح العامة وبالقانون يحدد تفاصيل وطريقة الاستفادة من كل واحدة منها»(31).
وهذا الجعل مأخوذ فيه ولاية الفقيه، او الحاكم الشرعي لضمان حقوق الناس وتنظيم الاستفادة من المياه مع ازدياد الحاجة وشح المصادر، ويمكن توضيحه بأن تصير الدولة وكيلاً عن الناس في ملكية الناس للماء كثروة طبيعية وفي الحيازة لما يحتاج منها لتوزيع مياه الشفة والشرب وتوليد الطاقة، دون ان يتحول الى ملكية عامة للدولة. وهكذا تصير الدول والحكومات في اقاليم العالم الاسلامي وكيلة عن المسلمين ومؤتمنة على الثروات العامة في بلادهم واهمها المياه.
4- القانون الاقليمي‏(32) الاسلامي للمياه:
ختاما، يصل بنا البحث عن حل للمشكلة القائمة حول استخدام المياه والاستفادة منها في العالم الاسلامي الى النقاط التالية:
أ- المياه ثروة عامة يملكها الناس (المواطنون في العالم الاسلامي) ولا تملكها الدول القائمة.
ب- غاية ما يمكن اعتبار علاقة الدولة بالماء هي علاقة الوكيل عن المواطنين.
ج- هذه الوكالة (ولو بعنوان الفضولية) توجب التعاون بين الحكومات المذكورة لحفظ حقوق المواطنين.
د- يخرج عن صفة المواطنية في العالم الاسلامي اليهود الغاصبون لفلسطين والاراضي العربية الاخرى.
وحيث ان الحكومات المذكورة ومن حيث اعتبار الاهلية الكاملة والسيادة قد انضوت في اطار اقليمي هو منظمة المؤتمر الاسلامي والتزمت بميثاقها فانها تعتبر مؤتمنة على الثروات العامة الواقعة ضمن حدودها. وهي بالتالي مدعوة لايجاد قانون اسلامي للمياه يحفظ منفعة سكانها وحاجاتها المستقبلية ضمن خطط معقولة المدى، وتقدم للآخرين منفعة الفائض عن ذلك وفق «قاعدة لا ضرر» و«قاعدة ابقاء القديم على قدمه» بما يخص استخدام المياه والتصرف في روافد الانهار الكبيرة، وتحل النزاعات الواقعة والمحتملة بواسطة المجمع الفقهي المنبثق عن منظمة المؤتمر الاسلامي. على ان يلحظ هذا القانون بشكل واضح وصريح استعمال الثروة بصورة لا تمكن «اسرائيل» او اي دولة او جهة غاصبة لحق من حقوق المسلمين من البقاء والاستمرار في غصبها واعتدائها على المسلمين. والحمد لله رب العالمين‏ 23 ذي القعدة 1414
ــــــــــــــ
الهوامش‏ (1) بمعنى انها تضم اكثر من 50% من المسلمين بين سكانها، وهذا هو الأصل المتبَّع اليوم لتمييز العالم الاسلامي عن غيره، والتمييز المعروف يقسم العالم الى دار الاسلام ودار الكفر، وهذه دار حرب ودار غير حرب والاخيرة معاهدة وغير معاهدة. راجع: محمود شاكر: سكان العالم الاسلامي، ص‏9. د. وهبة الزحيلي: العلاقات الدولية في الاسلام، ص‏103 الشيخ المفيد، محمد بن محمد بن النعمان، اوائل المقالات، ص‏107 (2) في الاصطلاح الفقهي، الشفة: شرب الانسان. الشرب: سقي الحيوان والزرع. (3) راجع ابواب الجهاد من موسوعات الحديث الشريف والفقه. (4) ولهذه الملاحظة تفسير آخر بضرورة ظهور الدين الاسلامي على الاديان والعقائد الاخرى، وشمول احكامه العالم كله فيكون افراد الجنس البشري المسلمين منهم وغير المسلمين مخاطبين بالاحكام الفرعية. وهذا البحث تتعرض له كتب اصول الفقه. راجع: الشيخ محمد الخضري، اصول الفقه ص‏106. و: الصدر، السيد محمد باقر، الحلقة الثالثة ج‏1ص‏ (5) هو الأساس السياسي والاجتماعي والاقتصادي والخلقي الذي يقوم عليه كيان المجتمع في الدولة.. وكل اتفاق يخالف النظام العام يكون باطلاً بطلانا مطلقا: الموسوعة العربية الميسرَّة وقد حرَّم فقهاء المسلمين مخالفة النظام العام. (6) جيرهارد فان غلان، القانون بين الأمم، ج‏2، ص‏168. (7) «لو اوقعت احدى الدول الاسلامية عقد رابطة مخالفة لمصلحة الاسلام والمسلمين، يجب على سائر الدول الجدُّ على حل عقدها بوسائل سياسية او اقتصادية كقطع الروابط السياسية والتجارية معها.. وامثال تلك العقود محرَّمة باطلة في شرع الاسلام». الامام الخميني، تحرير الوسيلة، ج‏2، ص‏446. (8) القانون بين الامم: م.س. ج‏3، ص‏234 (9) الاسراء، الآية 34. (10) التوبة، الآية 34. (11) راجع الامام الخميني: تحرير الوسيلة، ج‏2، ص‏445 فما بعد. 12) الانبياء، الآية 4. (13) وهذه الاحكام لا تنفصل بطبيعتها عن أساسها الحضاري الا ان بحث ترابطها يحتاج الى مقام آخر. (14) الجاثية، الآية 45. (15) السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ص‏476 (16) م.ن. ص‏415 416. (17) د. وهبة الزحيلي، الفقه الاسلامي وادلته ج‏5، ص‏490 (18) اقتصادنا، م.س. ص‏709 701 سليم رستم باز شرح المجلة ص‏676 681 (19) (20) مستدرك وسائل الشيعة الباب 4 من كتاب احياء الموات، الحديث‏2، ج‏3، ص‏150 الناس شركاء في ثلاثة: في الكلأ، والماء، والنار , رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات ."الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار، وثمنه حرام" رواه ابن ماجة عن عبد الله بن عباس. (21) شرح المجلة: م.س. ص‏676، وقال الشيخ كاشف الغطاء في تحرير المجلة ج‏2 ص‏247 «ان الشركة هنا لغوية لا بمعناها المصطلح، بل الاشتراك هنا بمعنى عموم الحكم لعامة البشر». (22) الحر العاملي وسائل الشيعة الباب‏5 من كتاب احياء الموات الحديث‏1، ج‏17، ص‏331 (23) اقتصادنا، م.س. 491 492، شرح المجلة م.س ص‏676 (24) تحرير المجلة: م.س. ص‏253 (25) شرح المجلة م.س. ص‏679، تحرير المجلة ص‏250- 251، اللمعة الدمشقية ج‏7، ص‏184، تحرير الوسيلة م.س. ص‏185 192. (26) شرح المجلة م.س. ص‏676 فما بعد (27) تحرير الوسيلة م.س. ج‏2 ص‏192. (28) تحرير الوسيلة م.س ج‏2 180 (29) تحرير المجلة م.س. ج‏2 ص‏256 (30) الفقه الاسلامي وأدلته، م.س. ج‏5، ص‏503. تحرير المجلة م.س. ج‏2 ص‏254 (31) انصاريان، علي: دستور الجمهورية الاسلامية الايرانية ص‏63 (32) تقصد به ما يقابل «العالمي»، حيث لا يرجح تطبيقه الا على اقاليم العالم الاسلامي.
مصادر ومراجع‏ (1) القرآن الكريم‏ (2) الحر العاملي: وسائل الشيعة، دار احياء التراث العربي، بيروت‏ (3) النوري، ميرزاحسين: مستدرك الوسائل، المكتبة الاسلامية، طهران 1321ه. (4) الصدر، السيد محمد باقر: اقتصادنا، دار التعارف، الطبعة العشرون، 1987 (5) الزحيلي، د.وهبة: الفقه الاسلامي وأدلته، دار الفكر، الطبعة الثالثة، بيروت 1989: العلاقات الدولية في الاسلام، مؤسسة الرسالة، الطبعة الاولى بيروت 1981م. (6) شاكر، محمود، سكان العالم الاسلامي، مؤسسة الرسالة، بيروت 1976 (7) الخضري، الشيخ محمد، دار المعارف، تونس 1989م. (8) فان غلان، جيرهارد: القانون بين الامم، دار الآفاق الجديدة. بيروت‏ (9) الامام الخميني، تحرير الوسيلة، مؤسسة النشر الاسلامي، قم 1404ه. (10) رستم باز، سليم: شرح المجلة (مجلة الاحكام العدلية العثمانية) المطبعة الادبية، بيروت 1923م‏ (11) آل كاشف الغطاء، الامام الشيخ محمد الحسين: تحرير المجلة، مكتبة النجاح طهران. صورة عن طبعة المكتبة المرتضوية، النجف الاشرف العراق 1361ه. (12) انصاريان، علي: دستور الجمهورية الاسلامية الايرانية مع دليل وفهارس، المستشارية الثقافية للجمهورية الاسلامية الايرانية بدمشق 1405ه 1985م. (13) الموسوعة العربية الميسَّرة، دار الشعب، الطبعة الثانية، القاهرة 1972.

ليست هناك تعليقات:

ألبوم الصور