الخميس، ديسمبر 11، 2008

تأليف الأمة في فكر السيد عبد الحسين شرف الدين

مؤتمر تكريم المفكر الاسلامي الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين – بيروت 18-19 – شباط 1992
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
شرفتني دعوة المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية للمشاركة في الكتابة عن علم من بلادي،أدركت من حياته سنة وعمرت صورته قلبي مذ وعيت إلى يومي هذا.
وكان حضوره الفكري في الحوزة العلمية مبعث فخر لكل الطلبة العامليين من جهة، وسبب إرهاق من جهة أخرى. فإن الحوزة كانت تريد من كل عاملي أن يجدد لها العهد بالكبار أمثاله الذين حملوا لواء التشيع في الإسلام، ولم تخيب بلادي هذه الرغبة وهذا الأمل، فها هم أعلامنا حاضرون في الساحة، وها هي دماء خيرتهم وأنفاسها بين التراب العاملي وهواء فلسطين المحتلة شاهدة على الفعالية المستمرة في حفظ الإسلام وأهله.
إن الدخول إلى عالم السيد عبد الحسين شرف الدين سهل، لأنه دخول إلى ساحة الإسلام، لكن الصعوبة تكمن في التقاط التفاصيل التي عاشتها هذه الشخصية، فلا تكفي قراءة حياة السيد من خلال النتائج : مؤلفات ومؤسات ونشاطات , لأنها لم تكن سوى محطات متواضعة على طريق الأصل الذي عمل طيلة حياته له ألا وهو تأليف الأمة الإسلامية وتوحيدها.
ولا بد في هذا المجال من الرجوع إلى دراسة المؤثرات في شخصيته رضوان الله عليه كمقدمات تساعدنا على بلوة فهم نظرته للوحدة وتفسير هذا التعلق والتوجه والاهتمام بها تأصيلاً فكرياً دون غيرها من المسائل التي طرحت طيلة القرن الماضي الذي عاش أكثره.
ومن المعروف أن سيدنا الإمام شرف الدين عاصر مراحل ثلاث من حياة الأمة:
¨ نهاية الدولة العثمانية.
¨ الاستعمار الغربي وتفكيك أراضي السلطنة.
¨ التجزئة والتقسيم المعبّر عنهما بعهود الاستقلال.
وما شاب هذه المراحل من كيد اليهود واغتصاب فلسطين وانبعاث قضايا فكرية وسياسية واجتماعية أسست لكل أو أكثر ما نعيشه اليوم في عالمنا العربي والإسلامي، وفي مقدّم ذلك قضية الوحدة والتجزئة.
إن اختياري لمسألة »تأليف الأمة في فكر السيد عبد الحسين شرف الدين« يرجع إلى عاملين:
أولهما: إنها قضية حيّة وجوهرية في مسيرتنا الإسلامية، فإن الوحدة ونقيضها ما زالا منذ أيام الإسلام الأولى علّة أي تقدم أو تأخر تقع فيه الأمة، وهو شأن غني عن البيان.
وقد جدّد العهد بهذه القضية القائد الراحل الإمام الخميني (قده)، ويتابعها من بعده القائد السيد خامنه إي حفظه الله. ثانيهما: إنني وجدتها محور تفكيره ونشاطاته وكتاباته منذ أول كتبه »الفصول المهمة« ولم يبتعد عنها لا في »المراجعات« ولا في »النص والاجتهاد« وكانت الروح في حركته السياسية والاجتماعية.
وسأعالج هذه المسألة من خلال عناوين ثلاثة:
1. مظاهر الإحساس بضرورة وحدة الأمة.
2. بواعث الإحساس بضرورة وحدة الأمة.
3. خلاصة نظريته في وحدة الأمة.

1- مظاهر الإحساس بضرورة وحدة الإمة في حياة السيد عبد الحسين شرف الدين
تبنّي الكيان السياسي:
ذكر السيد محمد صادق الصدر في ترجمته لحياة السيد شرف الدين أنه خلال فترة الحكم العثماني اكتفى بالجهاد الديني »لأن الدولة الحاكمة في لبنان، هي دولة مسلمة تقيم الشعائر الدينية كما يفرضها الإسلام«(1). رغم الاختلاف المذهبي معها.
وقد أشار إلى هذا المعنى أيضاً الدكتور حامد حفني داود بقوله: »وقد أقرّ ابن عمنا الشريف في ما رواه في هذا السفر الجليل (المراجعات) عن سلمة الجعفي: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا؟ فقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنّ عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم«(2).
وهذا الجهاد الديني المحافظ على وحدة الأمة بوحدة مرجعيتها السياسية : الخلافة العثمانية لم يخل من عمل إصلاحي على أساس النصيحة لأئمة المسلمين، وأي شأن أعظم من التوجه إلى لمّ الشمل المختلف وتقريب الحاكم العثماني الحنفي من مواطنيه المسلمين الشيعة في أراضي السلطنة المختلفة. قال (ره) في مقدمة »الفصول المهمة«: »باتفاق الكلمة واجتماع الأفئدة على النهضة بنواميس الأمة... تحشر الملة الفطرية..
. ويتبلج القسط... ويستوسق نظام العدل ويتفقد الحاكم أمر رعيته... وعندها تجب مؤازرته في إحياء مواتها وعمارة فلواتها... وإصلاح ما فسد وإرشاد من ضلّ...«.
الاهتمام بالواقع السياسي:
إنّ سعي السيد شرف الدين لإثبات العذر لكل من تأوّل عند السنة مقدمة لمعذرة الشيعة في ما ذهبوا إليه،كانت نتيجته المطلوبة: رفع السيف عن الداخل، وإحلال العدل الذي يبيح للحكومة الانصراف في تلك المرحلة إلى القضايا المصيرية التي تتهددها. قال رحمه الله: »فهلموا يا قومنا للنظر في سياستنا الحاضرة،وعرّجوا عما كان من شؤون السياسة الغابرة فإن الأحوال حرجة والمآزق ضيّقة، لا يناسبها نبش الدفائن ولا يليق بها إثارة الضغائن وقد آن للمسلمين أن يلتفتوا إلى ما حلّ بهم«(3).
وإن موقفه من تبني الخلافة العثمانية ظاهر في تعليقته على »الفصول المهمة« والتي لم تؤرخ - مع الأسف- قال (ره): »يعلم الناصب - يريد الشيخ نوح - وغيره أن الشيعة والسنّة في الخضوع للسلطان وعدمه على حد سواء، لأنّ من كان منهما في مملكته فهو مطيع بحكم الوجدان والعيان، ومن كان من الطائفتين في ممالك الأجانب فهو ممنوع عن طاعته، وأمّا شيعة إيران فكأهل السنة في مراكش وأفغان، فأيّ فرق بين الشيعة والسُّنة في هذا الأمر يا مسلمون؟«(4).
إشكال التقية:
نعم، في كلام الحجة الشيخ مرتضى آل يس (ره) عن حياة السيد، ما يشعر أنّ هذا الجهاد الديني قد اتسع ليشمل الاقطاعات المنكرة وهي »التي لا تملك العامة معها من أمر نفسها شيئاً«. ورغم »مظاهرة الأقوياء والمتزعمين والمستعمرين« فإن السيد »قد ثار بها وبهم وأنكر عليها وعليهم«. وفي كلامه عن جهاده ضد الاستعمار الأجنبي قال الشيخ يس دون تفصيل »إن خدماته العظيمة في العهد التركي، ثم في العهد الفرنسي ثم في الاستقلال كانت امتداداً لحركات التحرير وارتقاء بها نحو كل ما يحقق العدل ويوطّد الأمن وينعش الكافة...«(5). لكن يمكننا دفع هذا الإشكال بحمل هذا الكلام على مواقفه المؤيدة للحكومات العربية في الساعات الأخيرة للسلطنة العثمانية مقابل الحكومات الإنكليزية والفرنسية وغيرها، وبعد وقوع التفكك الذي آلت إليه الأمور وهو شأن لا يحيد به عن إحساسه بضرورة وحدة الأمة بجميع أبنائها لمواجهة الأعداء الخارجيين الذين عبّر عنهم بالغرب في كلامه إلى الأمة:
»فليتق الله أهل الشقاق ولينهض رجال الإصلاح بأسباب الوئام والوفاق، فقد نصب الغرب لنا حبائله، ووجّه نحونا قنابله وأظلّنا منطاده بكل صاعقة، وأقلّنا نافقه بكل بائقة وأحاط بنا أسطوله وضربت في أطلالنا طبوله«(6).
وتستمر مظاهر الإحساس بالحرص على وحدة الأمة عند السيد شرف الدين حتى تأليفه (النص والاجتهاد) في 10 رجب 1375 - 23 شباط 1956 أي قبل وفاته بسنة تقريباً.
وقد عرض في هذا الكتاب مئة مورد من الموارد التي خالف فيها اجتهاد البعض من الصحابة للنصوص وعالجها بروح علمية موضوعية يدلّ على ابتعادها عن الحساسيات والاختلافات ما أوصى به ابنه صدر الدين في قوله له: »ستكون مقدمة هذا الكتاب بقلمك يا بني، إني أحب أن تضعه في إطاره من سلامة القصد وخدمة الفكر، فإن محركات البحث الحقيقية في هذا المضمار قد تخفى على كثير من القراء، وقد يحوّلها كثير من ذوي الأغراض فيرسلونها في المدار الخطر على وحدة الأمة وألفة قلوبها«(7).
الوحدة بين الأفراد والأمة:
ولا يمكن في عجالتنا هذه استقصاء مظاهر حرصه رضوان الله عليه على وحدة الأمة فأكتفي أخيرا بما حرص عليه سماحته من استمراره العملي في إحياء عيد المولد النبوي الشريف في الثاني عشر من ربيع الأول خلافاً للمشهور عند الشيعة من أنه في السابع عشر منه.
2- بواعث الإحساس بضرورة وحدة الأمة في فكر السيد عبد الحسين شرف الدين :
يأتي البحث في هذه النقطة إجابة على سؤال طرحته على نفسي: لماذا اختار السيد شرف الدين هذا الطريق الصعب وكانت أمامه فرصة المرجعية الشيعية؟ وقد تجددت هذه الفرصة أمامه بسعي المرجع الديني المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني لاسترجاعه إلى النجف لحاجتها إليه. وأسهل من ذلك عليه كان تأسيس مرجعية في بلاده، والاستفادة من كل الظروف التي لابست حياته فيها منذ رجوعه مجتهداً مطلقاً.
إذا اعتبرنا كتاب السيد شرف الدين »الفصول المهمة في تأليف الأمة« الذي ألّفه بعد رجوعه من النجف بسبع سنين أي سنة 1327هـ - 1909م مظهراً لنضج نظرته في توحيد الأمة، فلا يمكن البحث عن أسباب باعثة لذلك خارج العاملين الذاتي والخارجي.
العامل الذاتي:
لقد تشكّل هذا العامل في ما أدّت إليه قراءتي لحياة السيد حتى بلوغه السابعة والثلاثين - عام الفصول - من:
1- القطع النفسي والاطمئنان بوجوب الوحدة تأسيساً على الآيات والروايات وقراءة التاريخ، اللذين يمكن استقراءهما من كتابه الفصول المهمة في تأليف الأمة في مواضع:
الفصل الأول وعنوانه: »نبذة مما جاء في الكتاب العزيز والسنّة المقدسة من الترغيب في الاجتماع والألفة«وقد أورد فيه من الآيات الكريمة التي نتبرك بذكر بعضها:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {الحجرات/10}.
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {التوبة/71}.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {آل عمران/102} وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {آل عمران/103} .
ثم يورد بعض الأحاديث من روايات الفريقين، ويختم الفصل بقوله:
»والأخبار في هذا متواترة والصحاح متظافرة، وإذا راجعت حديث الفريقين رأيت الصبح قد أسفر لذي عينين، وفي هذا كفاية لمن له من الله هداية«. وقد أشرت في بحث المظاهر إلى تبنيه رحمه الله روايات الطاعة للسلطان.
وأما عن تأثير التاريخ فيلاحظ ما أورده رحمه الله من ابتناء أكثر الحروب المذهبية على فتاوى مضلة كفتوى الشيخ نوح الحنفي بتكفير الشيعة ووجوب محاربتهم: »استحلّ بهذه الفتوى أنواعاً من المحرمات واستباح أقساماً من الحرمات... استحلّ تكفير المسلمين... وقد أباد بهذه الفتوى من مؤمني حلب أربعين ألفاً أو يزيدون وانتهبت أموالهم وأخرج الباقون منهم من ديارهم إلى نبل والنغاولة وأم العبد والدلبوز والفوعة وقراها. وهاجم الأمير ملحم ابن الأمير حيدر الشهابي - بسبب هذه الفتوى - جبل عامل سنة 1147هـ ،
فانتهك الحرمات واستباح المحرمات (يوم وقعة أنصار) وقتل وسلب وخرّب ونهب وأسر ألفاً وأربعماية من المؤمنين... إلى غير ذلك مما كان بسبب هذه الفتوى من الفظائع والفجائع«(8).
وأعتقد أن هذا القدر كافٍ للقطع بوجوب الوحدة وحجية القطع ذاتية كما يقول الفقهاء.
2- الإحساس بأن وظيفته الشرعية أكبر مما هي على غيره، وتنامى هذا الإحساس عنده من أمور مختلفة يمكن تلمسها في حياته الشخصية والعائلية.
إن النفوس الكبار كنفس سيدنا (ره) أبعد ما تكون عن الأنانية والشخصانية فكيف إذا جمعت الفخر الذاتي إلى الفخر النَّسَبي. ولست أرى في اعتباره عند بعض عارفيه خلاصة للشريفين الرضي والمرتضى وهو الذي يلتقي معهما في نسبه الشريف إلا إشارة إلى استحقاقه قيادة الأمة الإسلامية علماً وعملاً وكفاءة. نعم، لم يظهر منه ذلك تفصيلاً إلا أنّ سلوكه العام والإحساس بالمسؤولية سواء في بلاده عاملة أو في العراق،واهتمامه بالقضايا العامة وترفعه عن كثير مما كان يشغل أقرانه من الطلبة يؤيد ما أذهب إليه.
أضف إلى ذلك ما ذكره العلماء الكبار في حقه: علماً وقدرات وكفاءة تعتمل بها نفسه. هذه الروح الكبيرة التي تستشعر المسؤولية عن كل مسلم وعن كل شبر من أراضي المسلمين، تفسّر لنا ابتعاده عن الدخول في القضايا التي يشتغل به أقرانه، إلا في مرحلتين: الأولى: حين ألزمه والده بذلك، والثانية: بعد غلبة التجزئة والتغريب على ساحات الأمة. وفي هذه المرحلة عم ل أيضاً على تأسيس أصول تغييرية تثمر من بعده في توجيه طلبة العلوم الدينية والتعليم الحديث، فضلاً عن رعايته لجميع مواطنيه.
وفي هذا الجو يمكن ملاحظة الشعر الذي أورده متمثلاً به في الفصول (وأكرر هنا الأسف لعدم تأريخ التعليقة والزيادات فإن هذا الشعر ورد في فصل أضيف بكامله عليها وهو الفصل الحادي عشر):
ولــو أنــي بُـليت بهاشمـي خـؤولته بنـو عبــد المـدان
لهـان علـيّ مـا ألقـى ولكـن تعالـوا وانظـروا بمـن ابتلاني
يريد بذلك كردعلي والنشاشيبي والنصولي والكيالي وغيرهم...
العامل الخارجي :
عاصر السيد شرف الدين عند هجرته إلى النجف سنة 1307هـ/1889م، إلى حين تأليفه "الفصول" 1327هـ-1909م، شؤوناً وشجوناً في السياسة والاجتماع والفكر لا يمكن إنكار تأثيرها في نظرته إلى الأمور.
والبحث عن ذلك يقتضي وقتاً وجهداً وإمكانيات لا يتسع لها المقام، إلا أننا نشير بإجمال إلى أهم تلك القضايا دون ذكر مواقفه منها تفصيلاً لأنه أيضاً من الأمور الصعبة.
سياسياً: كانت السلطنة معقودة لعبد الحميد خان، وشهدت بلاد المسلمين الاعتداءات الأجنبية عليها من كل ناحية: روسيا من جهة والإنكليز والفرنساوية والطليان والبلجيك من جهات أخرى، فضلاً عن حركات العصيان والتمرد الداخلي كما في بلاد العرب والجبل الأسود وتسالونيك، والأرمن في شرق الأناضول،وبعض الاضطرابات في سوريا ولبنان.
إلا أن الصورة العامة لبلاد المسلمين لم تخل من جوانب إيجابية في المقاومة والانتصار، كما في انتصار الأفغان على الإنجليز قرب قندهار، أو مقاومة الحركة المهدوية في السودان للإنجليز والبلجيك. وكذلك مقاومة الحركة السنوسية للفرنسيين في مملكة كانم وواداي بالسودان والثورة العرابية في مصر. ورفض شيخ الكويت محمد الصباح عام 1895 إقامة علاقة تحالف مع الإنجليز مما أدى إلى اغتياله في العام التالي.
لكنّ المسألة الأخطر والتي برزت في هذه المرحلة هي تبلور فكرة اليهود بإنشاء دولتهم حيث ألف هرتزل كتابه الدولة اليهودية عام 1895 وبدأ بالسعي لتحقيق الفكرة، بالاتصال بحاشية السلطان عبد الحميد. ثم راسله حول أهداف الصهيونية في فلسطين مرتين 1896 و 1901.
وقد عقد المؤتمر اليهودي في بال عام 1897 إلى أن تأسست في يافا أول وكالة صهيونية لتهجير اليهود إلى فلسطين عام 1908 أي قبل تأليف السيد شرف الدين لكتابه الفصول بعام واحد فقط.
اجتماعياً: كان الفقر والجهل يسودان عامّة البلاد ولسنا بحاجة إلى ذكر نتائجها مع تسلط الإقطاعات المنكرة وظلم القادة العسكريين الفادح وهذا ما يمكن مراجعته في "بغية الراغبين" وما ذكره السيد الأمين (ره) عن هذه الفترة ففيه كفاية.
فكرياً: عاصر السيد شرف الدين علمين مهمين من أعلام النهضة هما السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده فضلاً عن الكواكبي وغيره.
عند وفاة السيد جمال الدين الأفغاني 1897م كان للسيد شرف الدين من العمر أربع وعشرون سنة، ما يعني أنه كان في قمة تألقه الفكري وبحثه العلمي، وغني عن البيان ما كان للسيد الأفغاني والشيخ محمد عبده من دور عظيم في تلك المرحلة، بإثارة اليقظة الإسلامية الحديثة وهذا الموضوع بالذات يحتاج إلى دراسة مستقلة.
كذلك عاصر السيد شرف الدين إثارة قاسم أمين لقضية تحرير المرأة في كتابيه تحرير المرأة 1899م والمرأة الجديدة 1901.
وقد شهدت هذه الفترة نشوء مجلات وصحف مختلفة.
إضافة إلى ذلك ظهرت جملة تحولات عامة في المنطقة، منها تدخل الخديوي في نظام التدريس الأزهري.
أظن أن ما قدمته يكفي لا لبعث الإحساس بضرورة الوحدة بل لوقف العمر على السعي إليها وهو ما أخلص له السيد شرف الدين طيلة عمره.
ومن اللطيف هنا أن أُذكّر بأنّ السيد (ره) قد ختم مؤلفاته قبل وفاته بسنة واحدة بكتابه "النص والاجتهاد"، وهو عودة مفصّلة إلى كتابه الأول "الفصول المهمة في تأليف الأمة" حيث كان قد عقد الفصل الثامن "لذكرمن تأول من السلف وخالف الجمهور فلم يقدح ذلك بعدالتهم".
3-خلاصة نظريته في وحدة الأمة :
الأمة في مفهوم السيد عبد الحسين شرف الدين هي أمة المسلمين سنة وشيعة، أتباع المذاهب التي صحت أصولها العقائدية(9) دون طوائف »الكرامية وهم طائفة من أهل السنة يذهبون إلى أن الله سبحانه وتعالى مستقر على العرش استقرارك على الأرض، والحائطية والحدثية، وهما فرقتان من المعتزلة يقولون بحلول الله عز وجل في بعض الأنبياء، مقالة النصارى في ابن مريم والخوارج، وكالآغاخانية والكيسانية
والناووسية والخطّابية والفطحية والواقفية وغيرها من الفرق الضالة المنسوبة إلى الشيعة«(10).
والإسلام الصحيح يكون عنده باعتقاد الشهادتين والتصديق بالبعث والصلوات الخمس إلى القبلة وحج البيت وصيام الشهر والزكاة والخمس المفروضين بهذا تعلن الصحاح الستة ، والمروي عن الإمام الصادق عليه السلام في خبر سفيان بن السمط: »الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصيام شهر رمضان..« الحديث(11).
ويرى السيد شرف الدين أن الألفة والوحدة بين السنة والشيعة واجب شرعي تكليفي تحرم مخالفته على جميع المسلمين استناداً إلى الأدلة القطعية من قرآن وسنة وما عليه المنصفون من علماء المسلمين في الفتوى.
قال (ره): »إن التدابر بينهم عبث محض وسفه صرف بل فساد في الأرض وإهلاك للحرث والنسل،ضرورة أنه متى كان الدين حاكماً على كل منهما بالإيمان، معلناً بفوزهما في أعلى الجنان لا يبقى لنزاعهما غرض تقصده الحكماء، أو أمر يليق بألباب العقلاء(12).
وإن من شأن تفعيل هذا الواجب في حياة الأمة أن يؤدي إلى تبلّج القسط، واستيساق العدل، وتفقّد الحاكم أمر رعيته، ووجوب مؤازرته في إحياء مواتها وعمارة فلواتها، وإصلاح ما فسد، وإرشاد من ضل(13)«.
وقد جهد (ره) في بيان أسباب الفرقة والنفرة لسد أبوابها بحيث لا يحركها إلا غافل أو مجرم وهذا ما يشكّل نوعاً من الحصانة لهذه النظرية.
خاتمة :
بعد هذا العرض والاستدلال يمكنني القول إن الحكم بوجوب الألفة والوحدة بين المسلمين السنة والشيعة عند السيد شرف الدين كان حكماً بالعنوان الأولي للحكم الشرعي لا بالعنوان الثانوي الناظر إلى حفظ الشيعة والتشيع كما قد يحاول تأويله البعض من أصحاب الأغراض الذين أشار إليهم في وصيته إلى ولده صدر الدين في مقدمة كتابه »النص والاجتهاد«.
فأين نحن من هذا الحكم ومن سيرة هذا الإمام؟.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مصادر البحث:
1- الفصول المهمة في تأليف الأمة - الطبعة السابعة 1397هـ- 1977م - دار الزهراء، بيروت.
2- المراجعات - الطبعة العشرون 1399هـ-1979م مطبوعات النجاح بالقاهرة.
3- النص والاجتهاد - الطبعة الرابعة 1386هـ-1966م، منشورات الأعلمي، بيروت.
الحواشي:
(1) الصدر، السيد محمد صادق: قبس من حياة السيد، النص والاجتهاد: ص 14.
(2) داود، د. حامد حفني: المراجعات ص 12.
(3) شرف الدين، الفصول المهمة، ص: 153.
(4) شرف الدين، الفصول المهمة، ص: 146.
(5) شرف الدين, المراجعات، ص: 47.
(6) شرف الدين، الفصول المهمة، ص 21.
(7) شرف الدين,النص والاجتهاد، ص 67.
(8) شرف الدين,الفصول المهمة، ص 152.
(9) شرف الدين,الفصول المهمة، ص 8.
(10) شرف الدين,الفصول المهمة، ص 165 - 166.
(11) شرف الدين,الفصول المهمة، ص 13 - 23.
(12) شرف الدين,الفصول المهمة، ص 25.
(13) شرف الدين,الفصول المهمة، المقدمة.

ليست هناك تعليقات:

ألبوم الصور