الخميس، يوليو 08، 2010

تعقيب على ثلاثية جهاد الزين - 3 : الإسلام " التركي " و الدولة التعددية ووظيفة الدينيين

تعقيب على ثلاثية جهاد الزين - 3 : الإسلام " التركي " و الدولة التعددية ووظيفة الدينيين
في هذه الرسالة الأخيرة من التعقيب أستكمل الكلام عن الشأن الإسلامي التركي و أختم بالتوقف عند العلمانية الأميركية الإيجابية وتوظيف المواقف الدينية ضد الدولة الدينية.
الإسلام " التركي " :
بداية وحلا للإشكال الظاهري الذي بدا للبعض وتوفيقا بين الخوف والحذر من العثمنة والتاكيد على وطنية ومواطنية المسلمين الشيعة العرب الذي تقدم من عالمين من علمائهم ينبغي ملاحظة وعي المسلمين الشيعة العرب للفرق بين الراهن والإستراتيجي في النظرة إلى الإسلام الذي حكمت به الدولة العثمانية وتتقدم به تركيا اليوم إلى العالم العربي على المستوى الفلسطيني وعلى المستوى العقائدي .
فهي تتقدم بنموذج مختلف للإسلام[1] عن الذي تقدمت وتتقدم به إيران بعد الثورة الإسلامية[2] أو الذي تحاول السعودية تجديد تقديمه [3] . إنه وكما أراه حاصل الخلط بين صوفية غولن وفقه أربكان في عدستي منظار الجيش التركي الذي حل محل المنظار القديم ذي العدسات المتراكبة , فهو وإن بدا في وجه أنه يشكل دعما لسيادة إيران والسعي السوري - اللبناني - الفلسطيني لإسترجاع (حقوقهم ) و حرصا على وحدة العراق , لكنه في الوجه الآخر مقرؤ على أنه " الإسلام الحنفي " مقابل " الإسلام السلفي " وهوبذلك وإن كان أقرب للسنة العرب لكنه يجلب معه مخاوف لدى هؤلاء حكاما على وجه الخصوص من أن يكون في الجانب السياسي مستفيدا من علاقته بدول الممانعة وقوى المقاومة - بما فيها القوى السنية - لتأمين أمرين: أولهما العودة بنفوذه إلى بلاد الشام التي كان يحكمها مباشرة وليس بالواسطة كمصر, وثانيهما تقديم نموذج لإسلام بديل يواجه الإسلام المتشدد لا بالصيغ المائعة والهلامية لما يسمى بالإسلام الوسطي الذي استطاعت السلفية نفسها مماشاته بل بصيغة محددة التكوين بالمذهب الحنفي .
ومكمن الحذر هنا من أن يكون هذا الموقف تحالفا مع الشيعة والعلويين لتشكيل استقطاب للسنة من بقية المذاهب غير السلفية ثم فرطه كتجربة المصالحة بين الصفويين والعثمانيين التي ذكرها السيد محسن الأمين في كتابه أعيان الشيعة والتي بلغت حد المصالحة على بعض العناوين الدينية الشيعية لكنها لم تلبث أن انهارت أمام مصالح الدول.
وهذا ما يدفع بي إلى الحذر والتحذير فنحن المسلمون الشيعة في دولنا القائمة مواطنون لا جاليات ولا أقليات و ينبغي لنا فهم و رعاية مصالحنا الوطنية .
لكنني في ذات الوقت لن ارضى لنفسي تجاه المواقف الإيجابية التركية من القضية الفلسطينية خصوصا وقضايا المنطقة عموما الوقوف في الموضع السلبي الذي وقف فيه بعض الحكام وبعض الإسلاميين من المواقف الإيجابية للجمهورية الإسلامية الإيرانية .
العلمانية الأميركية الإيجابية وتوظيف المواقف الدينية ضد الدولة الدينية:
تنتهي العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين والمسلمون - ما عدا الفلسطينيين - يعيشون في " دول مستقلة و ذات سيادة " تنتسب إلى منظمة الأمم المتحدة وبحسب نسبة عددهم إلى مجموع السكان[4] تنتسب هذه الدول إلى منظمة المؤتمر الإسلامي دولا "أعضاء" أو "مراقبة" ويترتب على هذا الإنتساب "إلتزامات" ما يعني أن الفضاء الطوباوي الذي عاشته الحركة الإسلامية في القرن الماضي أصبح أكثر ضيقا بأحلامها , خصوصا بعدما ابتعدت لاصقة " الإسلامية "[5] غالبا في دلالتها عما وضعت لأجله , وقد كان لوضعها حيثياته التحررية في بعضها .لكن لم يكن وجود هذه اللاصقة اوعدمه أبدا ذا دلالة على حكومتها فيلاحظ مثلا أن غيابه عن تسمية الدولة السعودية التي تأسست على جديد ديني لم يؤثر في طبيعة حكومتها فكانت دينية بالكامل .
وإن خيار إستقلال مسلمي الهند في"جمهورية باكستان[6] الإسلامية"ما يزال إلى اليوم موضع جدل في تقويمه وصل حد وصفه من بعض الإسلاميين الهنود بالخيانة .
"الدولة الدينية الإسلامية" بتجريديته لم يعد شعارا لمشروع للإسلاميين وأكثر الحركات الإسلامية في الدول المستقلة التي تحدثنا عنها إلا بصورتين :
الأولى كخيار فكري على مستوى بحث " المذهب السياسي " . والثانية كبديل "ديمقراطي" "سلمي" على مستوى البحث عن بديل" النظام السياسي " القائم في أي دولة, بعد الإقرار بشرعية ما للدول والأنظمة القائمة حتى من قبل أكثر الإسلاميين طوباوية وهو "حزب التحرير" الذي يحظى اليوم بتراخيص قانونية من الجهات المعنية في الأنظمة القائمة .
ويبقى نموذجان قائمان على رعاية الحلم أحدهما بخيار القوة "السيف واليد" كالقاعدة وطالبان ,والآخر بخيار الدعوة " اللسان" كبعض العلماء في مباحثهم الغائبة عن الزمان والمكان من كل المذاهب , وهما يكملان بعضهما ويخذل الثاني الأول عادة رعاية للسلطان عند أول إشتباك , وهما بعدُ : نموذجان نافران.
وما يجب الإقرار به هنا أننا في دول العالم الإسلامي عموما لم نستكمل بعد - ولأسباب متعددة - مستلزمات الإستقلال الوطني في قضايا مثل الهوية الوطنية والمواطنة والحرية , فضلا عن إفتقاد الكثير من الدول إلى أساس نظري في إختيار الشكل المحدد للدولة لإننا عندما نقول بدولة تعددية كخيار أصلح لمجتمع تعددي لابد أن نحدد شكلا للنظام , فالعراق في قيامه الجديد بعد النظام السابق ارتضى وعلى خطى لبنان "الديمقراطية التوافقية"[7] لكن هذا لا يكفي في تحديد شكل الدولة فإن الديمقراطية بتنوعاتها لازمة من لوازم الدولة الحديثة وكلامنا يقتضي تحديدا أدق فنحن في لبنان مثلا نعيش في بلد ميثاقي قدم أفراده تنازلات ليتشكل على صورته الحالية ، ونعيش قانونياً حالة فيدرالية شخصية ( مقابل الفيدرالية الجغرافية) تطبق فيها على الفرد قوانين معتقده في الأحوال الشخصية وهذه الفيدرالية مطبقة في قبرص وبلجيكا وهي بالتالي لا تتعارض مع الدولة التعددية وتحفظ الحق بتطبيق الشريعة - كما في الدولة الدينية - في نفس الوقت,ولو ضمن حدود معينة .
إنَّ إستبعاد الشعار التجريدي عند "دينيين" هو غير نفي الخيار وقد نتفق بل نتفق على دولة تعددية غير معادية للدين لتكون " الخيار الأصلح " في دولة مستقلة ذات مجتمع تعددي , لكن التعبير بالعلمنة المؤمنة أو العلمنة الإيجابية محل نظر إلا إذا اعتبرناه قضية إعتبارية فلن أختلف معك حوله لإن الإختلاف في الإعتباريات سهل التسوية ولكنه ليس كذلك فعلا خاصة مع ما قاله الأستاذ أمين إلياس "إلا أن الأستاذ الزين أغفل مفهوماً آخر ورد أيضاً في هذه الورقة. وهذا المفهوم شديد الأهمية، لارتباطه عضوياً بـ"العلمانية" المطروحة. إنه مفهوم "حرية الضمير". فلا إمكانية لإقامة أية علمانية إن لم تلازمها جبراً "حرية الضمير". "[8] . وهذا بحث آخر ولكن اسمح لي بسؤال سريع أين هي حرية الضمير في قوانين الدول العلمانية السلبية والإيجابية أم أن هذا المفهوم يتعلق فقط بالمعتقد الديني دون الفلسفي والسياسي " معاداة السامية مثلا "؟
التحسس من "العلمنة" عند الإسلاميين سيتحرك مهما كانت الإضافة فكيف إذا كانت أمريكية؟
و أكثر من ذلك إذا ارتبطت بإستبعاد تطبيق الشريعة الإسلامية[9] كما ذكر الأستاذ إلياس مثالا لها .
والسؤال الجديد هل التعددية تتناقض مع تطبيق الشريعة في بلادنا فقط ولايمكن قبولها كوجهة نظر[10] بينما لا نجدها كذلك في بريطانيا والولايات المتحدة نفسها[11], على كونه " تطبيق الشريعة " موضوعا للنقاش هناك أيضا بناء على تطبيقه فعلا من خلال بعض المحاكم , فلماذا إستعجال الحسم هنا برفض الدولة الدينية مطلقا على خلفيته و" التكلُف " لمواءمة ما دستوريا بين الإسلام ونظام سياسي معيَّن حتى في الدول ذات الأغلبية الدينية دون ترك التجربة الإجتماعية لتُنضِج هي ووفق حاجاتها وتطورها الطبيعي نظامها الخاص ؟ مجددا القول بأننا لم نستكمل إستقلالنا الوطني والإشكال موجه للإسلاميين كما غيرهم... لماذا ؟.
الأستاذ جهاد الزين :
كيف أمكنك أن تعتبر موقف آية الله العظمى السيد السيستاني متوافقا مع العلمنة الإيجابية ورافدا لها ورافضا للدولة الدينية مع أنه لا يعدو كونه حكما في واقعة ؟ أوَ هل تبين لك أنه لا يقول بشرعية النظام السياسي في إيران وهو نظام ديني أم أنه لا يقول بشرعية النظم العربية القائمة وبعضها ديني؟
وإذا كان " الإعتبار " سهل المؤونة لكن " الجعل " ليس كذلك أبدا إنه يضعك في نفس الصف الذي تهرب منه , القسر على نموذج واحد دون ترك الخيار والحرية للناس .
أنت تهرب من إحتكار بعض الدينيين للحقيقة لا لتقف في صف محتكريها من الآخرين فقط بل وتفتش لهم عن فتوى شرعية وإلا فكيف تفسر هذا " التكليف الشرعي الحديث " للدينيين :
"تيارات ثلاثة يمكن اعتبارها الآن، بل "جعلها " ، قوة دفع فكرية وبالتالي سياسية، لبلورة شخصية "الدولة غير الدينية"
" انها المرحلة التالية بدون لبس:
مرحلة دور أو أدوار التيارات المتدينة في عملية إعادة ما لفصل الدين عن الدولة.
"الدينيون الجدد" هم الذين يستطيعون في ظل الاكتساح الاصولي اعادة الاعتبار لفكرة الدولة غير الدينية.
هذا ليس زمن غير الدينيين في صناعة العلمانية الجديدة. هذا زمن الدينيين في اعادة "علمنة" الحياة السياسية ومفاهيمها " .
أخيرا أترك مناقشة عنوان البابا بينيدكتوس والسينودس إلى عنوان مستقل , راجيا أن لا أكون قد أطلت والسلام.
بكل إحترام , الشيخ علي حسن خازم - بيروت


[1] ونقل هذا المعنى الأستاذ جهاد بقوله : " ويجب ان نتذكر هنا ان فتح الله غولن معروف بنقده لما يسميه النموذجين الايراني والسعودي كـ"دولتين دينيتين"".
[2] حيث لاينظر إليه منفكا عن شيعيته وقوميته , نتيجة بعض الأخطاء الشخصية التي لا يتحمل مسؤليتها النظام كبعض المواقف تجاه دول الخليج و نتيجة الحروب المختلفة التي تعرضت لها إيران و ما يجري من تشكيك في مواقفها من القضية الفلسطينية ودعم المقاومة.
[3] بعد الدعوة التي أطلقها الأمير سلمان بن عبد العزيز هذه السنة لاستبعاد التعبير بالوهابية عن نمط الإسلام الذي قدمته السعودية طيلة العقود الماضية بل منذ تأسيس التحالف بين الأسرة الحاكمة والشيخ محمد ابن عبد الوهاب . و دعوة الأمير سلمان هذه التي أعقبتها على صفحات الجرائد السعودية وغيرها مناقشات عديدة ورافقتها دعوات تجديد جريئة من أحفاد العائلتين السياسية (آل سعود ) والدينية (آل الشيخ ) تحاول القفز على الموروث التخالفي بين السعودية وتركيا العثمانية الذي اصطف فيه المسلمون العرب والعجم وفي طليعتهم مصر محمد علي باشا وابنه طوسون في " تجريدته الحربية التي هزمت الوهابية في معركة الدرعية "والهند كذلك خلف تركية, وهذا ما يفسر إندفاع بعض العلماء السعوديين السلفيين لمحاولة التواصل مع شيخي الأزهر الراحل والحالي وإعادة الإعتبار لمرجعية الأزهر السنية في ما يبدو إسنباقا لإمكانية إصطفاف جديد يجمع تركيا الحنفية ومصر الشافعية كانت بدأت ملامحه عام 2005 بدلالات قضية وثيقة " فتح مصر " المنسوبة إلى أحد سلفيي الإخوان المسلمين " خيرت الشاطر " فهي إن لم تصح - مع ثبوتها قضائيا - فقد استعملت بالحد الأدنى كأداة تخويف في مصر للمسلمين المعتدلين والأقباط ومن هذه الملامح دعوات لتطهير الأزهر من بعض العلماء السلفيين ولن تنتهي هذه الملامح عند رفض شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الدعوة لإستبعاد المذهب الشيعي الإثنا عشري.
[4] وهو المعيار المعتمد فعليا علما أنه "قد طرح الدارسون عدة معايير لتعريف الدولة الإسلامية، منها أن يشكل المسلمون 50% فأكثر من سكان الدولة، أو أن ينص دستور الدولة على الإسلام كدين للدولة، أو كمصدر للتشريع، أو أن تطبق الدولة الشريعة الإسلامية في نظامها الاجتماعى، أو أن يكون رئيس الدولة مسلماً. وقد تعرضت تلك المعايير لانتقادات متعددة، سواء لعدم وضوحها أو عدم إمكانية التحقق منها".
[5] التي ما تزال مضافة إلى تسمية أربع جمهوريات هي ايران وباكستان والقمر وموريتانيا و دولة أفغانستان من أصل سبع وخمسون دولة مجموع الدول الأعضاء الفعليون في منظمة المؤتمر الإسلامي.
[6] إسم باكستان يدل كما هو على أرض الطهارة لكن حقيقة هو تركيب للحروف الأولى من أسماء المقاطعات التي تشكلت عليها الجمهورية وهذا له دلالاته في تكريس الربط بالأرض وليس بالمبدأ فقط .
[7] ولن أدخل هنا في استتباعه لمحاصصة أو شل المؤسسات المدعَّى .
[8] في مقالته بين "العلمانية الإيجابية" و"العلمانية السلبية" - النهار 5 تموز 2010 وأضاف :هذه الحرية التي شرحتها الورقة شرحاً وافياً في فقرتها 38، وهي تقضي بأن يكون الفرد حراً في أن يؤمن أو لا يؤمن، في أن يمارس ديانته بشكل منفرد أو بشكل جماعي دون أية موانع، كما أنها تقضي بأن يكون الفرد حراً في تغيير ديانته. ثم تذهب هذه الفقرة إلى انتقاد الحالة القائمة حالياً في الشرق الأوسط حيث "الديانة هي خيار جماعي وقومي"، وليست "خياراً فردياً"، وأن "تغيير الديانة ينظر (بضم الياء)إليه كخيانة للمجتمع وللثقافة وللأمة، المبنية بشكل أساسي على التقليد الديني". كما تشير هذه الفقرة إلى أن "اعتناق المسلم للديانة المسيحية أمر ممنوع" في قوانين البلاد الإسلامية، وهذا ما يمسّ بالجوهر "حرية الضمير" أساس كل علمانية.
من هنا، تذهب هذه الورقة لإيضاح أن "الحرية الدينية" (Liberté de religion) المنصوص عنها في بعض الدساتير العربية أو الإسلامية، تعني "حرية العبادة" (Liberté de culte)، وبالتالي إن هذه البلدان لا تعترف بتاتاً بحق المواطن فيها بأن يغيّر دينه، أو أن يكون "غير مؤمن". من هنا تأتي أهمية وقيمة "حرية الضمير"، التي تسمح لأي مواطن، مهما كان دينه، أن يؤمن بهذا الدين أو أن لا يؤمن به، كما تسمح له بأن يقوم بتغيير دينه وفق خياره الشخصي، دون أن يتعرض لأية مضايقات أو عقوبات.
[9] : قال الإمام شمس الدين - وهو من الفقهاء المعدودين في قبول التعددية وأدق من ناقش العلمانية - عن المجلس النيابي اللبناني في مشروع الأحوال الشخصية الإختيارية : " لم ننتخب مجلس النواب لاتخاذ قرارات كهذه تريد إدخال السلطة الزمنية في ساحات ليست لها ".
[10] وقد قبلناها كإسلاميين- ولو بالتطابق غير المقصود أو غير الإختياري مع الفيدرالية الشخصية -
[11] راجع مجموعة مقالات عن المسألة منها :

ليست هناك تعليقات:

ألبوم الصور