الخميس، مايو 30، 2013

عمتي "الحَجّة خديجة" وحرية المرأة واستقلاليتها




عندما كنا في الصف الخامس إبتدائي (سنة 1967) كان أحدنا يحب زميلته لوقع إسمها أو للون شعرها أو لطولها أو للنمش الجميل في وجهها أو يحبهن جميعا سوية لكل ما ذكرت, ومنتهى الوصل بها أن تبتسم له, يرافقها في فرصة الدرس في ملعب المدرسة ولكنه كان يتحاشاها خارجها...
في المرحلة المتوسطة ( حدود سنة 1969) تعرفت إلى هواية المراسلة بواسطة إبن جيراننا وكان يكبرني سنا فأعطاني عنوانا من صفحة "أصدقاء للمراسلة" في إحدى المجلات , وكتبت إلى فتاة مصرية ردَّت على رسالتي وعلى غلاف رسالتها "من بنت النيل إلى إبن الأرز" واستلمت أمي الرسالة وقرئ لها العنوان ... فكان ما كان ... وتوقفت عن الهواية.
في نهايات المرحلة المتوسطة كنا نتحدى إرادة الأهل وأحيانا إرادة الناظر والمدير في شأن العلاقة بالبنات وعلاقتهن بنا , ولكن هذا التحدي لم يخرج من ملعب المدرسة إلا في رحلة مدرسية يتيمة إلى جبيل وطرابلس كدت فيها أن أتضارب مع الناظر في "الأوتوكار"[1] بعدما "تناقرنا" كديكين ...
عندما جاءت شقيقة زميلي (وكنا في صف البكالوريا سنة 1973 ) بعد دوام المدرسة إلى بيتنا لاستعارة كتاب الأطلس قامت القيامة , والطريف أن الوحيدة التي وقفت إلى جانبي– على كبر سنها- هي عمة أبي المرحومة الحاجة خديجة [2], وكانت تعيش معنا في نفس المنزل لأنها مُطلَّقة وبدون أولاد ولطلاقها قصة يعرفها كبار السن[3], سأحكيها لكم لاحقا, ومع ذلك انتهت القصة .. بقصة ...

طيِّب , ما هي مناسبة هذا النص ؟

مجرد ذكريات؟
لا طبعاً, مناسبة النص منظر صدمني يوم الثلاثاء ‏28‏.05‏.2013 على تلفزيون الجديد : فتيات شبه محجبات جُعِلنَ (وقد يكن ممثلات للدور) ضمن مجموعة فتيات يرقصن في فيديو كليب يدعو إلى استقلالية المرأة وأن جسدها يخصها ويرفض مفهوم العيب وينادي بقوتها وحريتها...
حريتها في أي شئ يا شعب لبنان العظيم ؟؟؟؟ الجواب في نهاية الفيديوكليب : "بدي أرقص"...
عجيب !!!! هل انتهت طموحات المرأة عند الرقص؟
"أي , يرَقْصوكُن رقص الدبب نشالله" - بالعامية اللبنانية- كما كانت لتقول عمتي الحاجة خديجة رحمها الله لو شاهدتهن .

ما هي قصة عمتي الحاجة خديجة؟

هي عمة أبي , خديجة بنت حسن بن محمد بن قاسم خازم , من "برج بيروت" كما كان يقال لبرج البراجنة في المعاملات العثمانية ولاحقا حتى الخمسينات بين المعنيين بالمعاملات .توفيت في 13 تشرين الثاني 1987عن عمر ناهز المئة سنة فإن أختها عمتي الحاجة سكنة وكانت تصغرها سنا مولودة سنة  1887 وفقا للوشم الذي كنا نراه واضحا على ظاهر كفِّها .
المقلمة النحاسية لجد أبي




 كانت الحاجة خديجة قد تزوجت زواجها الثاني من نسيب لنا من الجنوب : "إبلاوي"[4] وعاشت معه في بلدته, وكان سبب طلاقها منه سنة 1951 أنَّها سألته صباحا عند خروجه من المنزل إلى عمله :"شو بدك تتغدى؟" وكانا قد تخاصما بسبب استقبالها لأخ طليقها وقيامها بإطعام فرسه وسقايتها أمام الجيران , وعائلتنا - حيث وجدت - معروفة بمزاج متناقض:  حِدَّة الطبع واللين والطيبة في آن , أو قل كما ورد في الحديث الشريف "المؤمن سريع الغضب سريع الرضا" , فأجابها رحمه الله "براطيش" وهي جمع برطوشة وتعني – " أَعَزَّكُمُ الله وإنتو كبيري القدر" - الأحذية القديمة المهترئة في عاميَّة جبل عامل أما في البرج فيقولون "صرامي عتيقة" جمع "صرماية".
عاد نسيبنا من عمله ظهرا فسألها عن طعام الغداء , أشارت إليه ليضعه بنفسه من الطنجرة فوق موقدة الحطب في فناء الدار , وما أن رفع المسكين غطاء الطنجرة حتى فوجئ بماء يغلي على كل ما جمعته مما كان في البيت من "براطيش" ويمكن حتى القباقيب الخشبية .
تقول الحاجَّة إنَّه أخذها من يدها وفورا إلى الشيخ[5] ليطلقها وكان طلاقها بعد أيام ...ولم تكن قد حملت منه بسبب "حزن الرحم" كما عللوه لها بعد اختفاء ولدها من طليقها الأول .

وثيقة طلاق الحاجة خديجة خازم


كانت رحمها الله قد طلقت من زوجها الأول بعد حياة غير قصيرة معه في الإغتراب في السنغال تولت فيها مشاركته إدارة عمله[6], فقد اتهمها أهله بإهمال ولدها الصغير الوحيد الذي اختفى وقيل في اختفائه أكثر من رواية.
المهم أن نسيبنا تزوج بعدها وأنجب ثلاثة أولاد وتوفي . وبعد انقضاء عِدَّة أرملته ولظروف خاصة بها عادت إلى بلدتها وتزوجت تاركة الأولاد لأبويه العاجزين, فما كان من عمتي الحاجة خديجة وإحتراما لذكراه إلا أن قامت - عنهما - بتولي شؤون الأولاد حتى استقلوا , وكانوا لها فيما بعد من الأوفياء .

الخُلاصة يا مولانا ؟

الخلاصة يا  أكارم , إن النظر إلى مسؤولية المجتمع (صغارا وكبارا , نساء ورجالا) عن البنت لم تكن من موقع فوقي إلى مخلوق دوني دائما , بل أدَّعي أن هذه "المفاهيم" مع غير ما ذكرت لم تكن حاضرة ولا واضحة لنا أو لآبائنا وأمهاتنا .
 لقد كانت المرأة تعيش حياتها وفقا لتركيب شخصيتها كإنسانة ضمن بيئتها , و النماذج التي ذكرتها أول الكلام ليست استثنائية ولا فريدة , وبالتتبع ستجد أن أغلب المناطق اللبنانية عاشت هكذا.
إن تحاشينا لزميلاتنا في الشارع لم يكن إلا نوعا من التنزيه عن ما كنا نقوم به كصبيان , وإن اضطراب أمي من فكرة مراسلة بنت مصرية أو استقبال أخرى في بيتنا الذي لا توجد فيه بنات ولا في بيت عمي الحاج محمود المقابل أو في بيت عمي الحاج محمد الذي كان يعلو بيتنا[7],  كان حرصا علي وعلى البنت في آن من الالتهاء عن الدرس , أو أن يساء إليها ولذلك كان دفاع الحاجة خديجة ملخصا بجملتين :
 " هو كان بأدبه والبنت إجت بأدبها وراحت بأدبها ".
بربكم ألا تشعرون معي بأن بعض "النسونجيات" يستحضرن صورا لا وجود لها اليوم فقط وفقط ليؤسسن جمعيات تحارب بها فتترأس وتتسلطن ولن أقول أكثر عن مصادر تمويل بعضهن....
عن أية قيود على المرأة يمكن اعتبارها ظاهرة إجتماعية عامة تتحدث هذه "النسونجيات" ؟
ألا يقرأن ولا يسمعن ولا يعشن في هذا المجتمع ؟
وأعجب العجب اليوم بدعة الكوتا النسائية في المجالس كأنه لا يكفينا من يُفْرَضْ علينا من نواب "رجال " لتفرض علينا نساؤهم معهم ؟
هذا لا يمنع أن بعض الممارسات الخاطئة كانت وما زالت موجودة لكن علاجها والأخطاء الكثيرة الأخرى بحق المواطن – أعم من كونه رجلا أو امرأة - لا يكونان بالتمييز للمرأة بل بالعدالة لهما...
عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام " الحُرُّ حُرٌ في أُمورِه كُلِّها , الحر حر وإن مسه الضر, إن الحر حر على جميع أحواله" .
قلت في مجال آخر [8]: القديسون والأولياء والأتقياء تحرروا وحرروا في الدنيا وكل من حقق شهوته بلغ حريته , حتى الشيطان ... وكل من أمات شهوته بلغ كمال الحرية.
البعض يرى الحرية من المقولات الإضافية فتجدهم يطلبونها ويفقدونها، يعطونها ويمنعونها أمّا الكاملون في إنسانيتهم فهي وجودهم ووجدانهم وفضاء حياتهم ، الحرية ليست منشأة ، وليست حالاً بلغة العرفاء والصوفيين هي مقام بل هي أكثر....

وليست العبودية غير ذلك هي من تمام الحرية بل هي تمامها وإن لم تكن في بعض وجوهها كمالها.

الحر لا يحتاج إلى حرية فهي قيدّ له، العبد يحتاجها لأنه مكره ومضطر.

هل نستطيع إطلاق الحرية من قيودها فيعود الإنسان كلمة الله وروح الله.

 وأقول هنا : 

المرأة إنسانة قبل أن تكون أنثى وما ينبغي إن يُعاد إليها في مجتمعاتنا هو إنسانيتها , أما حريتها وأنوثتها فهي وحدها كفيلة بحفظهما...

ولذوات العقول (وذويها) أختم :

 عمتي الحاجة خديجة كانت حُرَّة ومستقلة وعاشت حريتها واستقلاليتها بأحسن مما تعيشه أسيرات تشكيل التشكيلات وأسيرات هوى النفس وأسيرات الغرور .....ومما يعيشه الرجال الأسرى كذلك....
أخيرا , إلى الآباء والأمهات إتقوا الله في بناتكم وأبنائكم


[1] الذي ظلت نقلة الطلاب إلى محيط بيتنا في حارة حريك لسنوات بعد تخرجي من المدرسة باسم "نقلة خازم – اللبون"علي اسمَي عائلتي وزميلي خليل اللبون بسبب تكليفنا بضبط زملائنا في الاوتوكار.
[2] يبدو أن علاقة العمات بأولاد الأخ - رغم ما يبدو من أن تعلقهم بخالاتهم أكبر- تأخذ طابع الدفاع , فقد سبقتها عمتي المرحومة الحاجة حياة بالدفاع عني في قصة ذهابي مع رفاقي بدون علم أحد إلى بحر الأوزاعي 1966 في المنطقة الخطرة المعروفة ب "غاروقة الجمال" ,وخلاصة دفاعها تجلت بالكشف وراء أذنًّي فلما لم تجد أثرا للملح صدقتني أنني لم أنزل إلى الماء وطلبت تخفيف العقاب.
[3] لم يرض المرحوم الدكتور أسعد الأسعد أن يجري عملية جراحية لوالدي رحمه الله إلا أن يسمع القصة منها مباشرة فسبته وأمه ممازحة متهمة إياها بنقل الحكاية إليه وكان اتهامها صحيحا .
[4] عامية وهي نسبة  إلى القِبْلَة وجِهَتُها لأهل البرج جنوبا وكان أهل البرج يفخرون على أهل الجنوب ويلقبونهم ب "الأبالى" , وقد حدثني الأخ سماحة الشيخ حسن حريري عن ابنة عم لعمتنا الحاجة خديجة كانت متزوجة من أحد أبناء بلدته دير قانون النهر هي الحاجة فضيلة رحمهما الله جدة الصحافي الصديق الأستاذ قاسم قصير , قال إنه أدركها يافعا وهي تفخر عليهم بأنها من برج بيروت والفارق بين ضيعتها وضيعتهم ومعيشتها عند أهلها هنا وبين معيشتها تلك الأيام في دير قانون النهر .
[5] المرحوم الشيخ زين العابدين شمس الدين كما في وثيقة طلاقها بخطه وأما حوارها معه في المسألة فقصة أخرى .
[6] وتمكنت بعلاقاتها من تأمين فرصة العمل لزوج أختها ولأقارب آخرين , صاروا وأولادهم لاحقا من المرموقين في عالم الإغتراب.
[7]  حتى ذلك الحين,حيث لاحقا رزق عمي الحاج محمد ببنت هي هلا , ثم رزق عمي حسين ببنتين هما نسرين ونجوى , ورزق عمي الحاج أحمد ببنت هي غنى .

ليست هناك تعليقات:

ألبوم الصور