الأربعاء، ديسمبر 05، 2012

عاشورائيات - 8 - : ثقافة الإمام الخميني العاشورائية ومسؤولية المجتمع



ثقافة الإمام الخميني العاشورائية ومسؤولية المجتمع[1]

 البحث عن الإمام الخميني وثقافة عاشوراء يقتضي بحثاً في مفاهيم الثقافة والمجتمع عند الإمام، وهي مفاهيم نظرية أسسها رضوان الله عليه وانطلق منها في قيادة المجتمع الإيراني بشكل خاص، والمجتمع الإسلامي عموماً ولئن لم يقم بنشر مفاهيمه هذه وغيرها بصورة نظرية فإن العمل على تركيبها من مفردات خطبه وتوجهاته العلمية أمر ممكن ومطلوب.
إن سذاجة البعض ممن اعتبر الإمام الخميني (قده) مجرد قائد "موفّق" مردها إلى تقصيرنا في تنظيم ودراسة آثار الإمام وترجمتها أولاً، وإلى الفصل بين شخصية الإمام وبين مخزونه الإرثي والإجتهادي ثانياً، أو بتعبير آخر : إلى النظر في ممارسته العملية كأحكام وقرارات مجردة دون استبيان مبانيها الأصولية والإستدلالية التي تشكل مقدماتها النظرية.
قد يكتب لهذه المقالة التوفيق بإلحاق بعض نصوص سماحة الإمام، أو الإحالة إليها، إلا أن الأصل فيها كتابة نتائج أو بعض نتائج حركة الإمام الخميني من عاشوراء وعلى ضوئها في المجتمع، ولذلك لا بد من تقديم عنوانين فرعيين هما مفهوم الثقافة ومفهوم المجتمع لننتهي إلى ملاحظة رسالة مجتمعنا المعاصر ومسؤوليته اتجاه الثقافة العاشورائية للإمام الخميني وهي مركب أساسه واقعة عاشوراء نفسها.
لقد اعتبر الإمام الخميني الإنجازات الكبيرة التي تحققت في إيران من بركات عاشوراء ومجالسها، وإن كلامه المفصل عن ثورة سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) وإحياءه لذكراه العطرة لم يكادا يبتعدان عن حياته اليومية ولو بصورة غير مباشرة. وهذا ما اختصره في سلوكه بعد شهادة ابنه البكر السيد مصطفى (رض) حيث تمثل بجده الحسين في الصبر دون الجزع وفي الإلتفات المستمر إلى العدو على أنه عدو الله والإسلام والمسلمين.

الإمام الخميني (قده) اعتبر الإنجازات الكبيرة التي تحققت في إيران من بركات عاشوراء ومجالسها

وكما كانت واقعة كربلاء ثمرة مواجهة بين ثقافة إسلامية وثقافة جاهلية فإن معطيات هذه الواقعة التاريخية تحولت عن طريق التعلم والتواصل الإجتماعي لتنتج بنفسها ثورات على مدى التاريخ الإسلامي، كانت أعظمها ثورة الإمام الخميني نفسه، والتي تحولت هي أيضاً كمفردة من مفردات الثقافة الإسلامية المعاصرة في مواجهة الواقع السياسي والإجتماعي لتثمر انتفاضة ومقاومة في فلسطين ولبنان نشأ عنهما تغيُّر وتغيير اجتماعي هامان في المنطقة الإسلامية. وإن البحث عن الإمام الخميني وعاشوراء لن يذهب بعيداً عن البحث في الثقافة الإسلامية التي كان سماحته يسميها بالإسلام المحمدي تطهيراً عن إسلام الفاسقين والمنافقين وإن ثقافة مجتمعنا تدور في إطار هذا الدين الحنيف كأفق رحب وسليم وإن البحث عن دور للنخب المثقفة والسياسية في حفظ هذا المجتمع هو جوهر حركة الإمام الخميني المستفيدة من حركة الإمام الحسين في عاشوراء نحو تغيير اجتماعي سياسي يصادم التحويل الجاهلي بكل انحرافاته.

في الثقافة

الثقافة تعبير توصف به الأساليب الإنسانية المميزة في التوفيق بين أهداف ورغبات الإنسان وتشكيل المحيط وتطويع الطبيعة، وإن القدر المشترك والمقبول- لدى علماء الإنتروبولوجيا الثقافية أنها تتألف مما يتعلم من أساليب السلوك والملاءمة كما أنها تختلف تبعاً للموروث السلوكي الفطري أو النموذجي.
وهذه الثقافة عند علماء الإنتروبولوجيا معادلة تماماً للشعب الذي يحياها كما أشار إلى ذلك كلود ليفي ستراوس.

أسس الثقافة الإسلامية

يكفي أن نربط السلوك الإنساني بمنظومة الأفكار والقيم الإسلامية لنتحدث عن ثقافة إسلامية لمجتمع ما متجاوزين بذلك الجوانب والظروف الخاصة المتعلقة بجزئيات وتفاصيل لا تخالف الإسلام وإن اختلفت بين منطقة وأخرى، فهناك مجتمع أندونيسي إسلامي وهناك مجتمع عربي إسلامي أو مجتمع باكستاني- هندي إسلامي، ويمكن وصفها كلها بالمجتمع الإسلامي للإشتراك فيما بينها في العقيدة التوحيد ونبوة سيدنا محمد الخاتمة وما يتفرع عنها من مبادئ، للإشتراك في وحدة المبادئ الخلقية المتمثلة بالنفور من الزنا وأكل مال اليتيم وشرب الخمر مثلاً، وكذلك ثمة وحدة في العادات ناشئة عن الإلتزام بالفقه، والطهارة والستر والختان وأنواع المأكل والمشرب ووحدة على مستوى الإتجاهات المعرفية التاريخية بل يمكننا ملاحظة نوع من الوحدة في التعامل مع الأشياء كنماذج بناء للمدن والأسواق مرتبطة- بشكل ما- بكثير من الأحكام الفقهية.
إن هذا الإشتراك أثمر ثقافة إسلامية على مستويي السلوك والقيمة اللذين أشرنا إليهما سابقاً في عالمنا الإسلامي المترامي الأطراف، بمعنى آخر إنه ذلك الكل مشتمل على الجوانب المادية والإنسانية والروحية الذي يعتمده الإنسان في مواجهة المشكلات التي تعترض طريقه سواء في ذلك الحاجات الأساسية كالغذاء والإنجاب أو الحاجات المشتقة كتهيئة المؤن والمواد الأساسية عبر نظام إقتصادي أو تقنين وضبط العلاقات الجنسية وهذا الطبع يتعلق بالتوازن بين الفطرة والغريزة من جهة والحاجة الإجتماعية من جهة أخرى.
في اعتباره علم الإنتربولوجبا إلى حد بعيد مولوداً للتمدد الإستعماري الأوروبي، فقد جاء دور الإنتربولوجي ليجعل الأوروبي يرى العالم المستعمر ككائن حي يعيش في ثقافات، وليس كمجموعة أشياء تقتنى (مسلوبة الإرادة والفاعلية).
وبكلام آخر، فإننا إذا نظرنا إلى الثقافة كتطور تاريخي تقف أمامنا ثلاثة أمور :
أولاً : يمكن استخدام الثقافة كطريقة لتمييز السلوك الإنساني عن غيره من الحيوانات.
ثانياً : أن السلوك الإنساني نفسه كان سبباً وقد يكون بعضه نتيجة للتطور المادي للإنسان دون إغفال عامل الوحي والرسالات الإلهية.
ثالثاً : مع التوسع في استعمال الرموز واللغات فإن السلوك الثقافي سمح بتراكم من الأشياء عبر العصور منتجاً زيادة في الإعمار الإنساني، وزيادة في استخدام البيئة الطبيعية من موقع النشوء والتطور.
فالثقافة على مستوى الوظيفة إذاً سلوك وليست أفكاراً، إنها حركة في الواقع الإجتماعي والطبيعي على أساس فطري غريزي أو على أساس منظومة الأفكار المتبناة.
وأما على المستوى القيمي، يعني في مجال النظر إليها على أساس مقارنتها بثقافة أخرى فهي ذلك الكل المتكامل الذي يشتمل على الأدوات والأشياء والقوانين والأفكار والحرف الإنسانية والمعتقدات الدينية والأعراف.

في المجتمع الإسلامي وثقافة عاشوراء

أين تقع ثقافة عاشوراء من الثقافة الإسلامية في هذا المجال وما هي طبيعة المجتمع الذي أنتج أساساً الواقعة العاشورائية نفسها؟
إن هذا السؤال المركب بطبيعته يعيدنا إلى قراءة التاريخ الإجتماعي لعصر صدر الإسلام وهو موضوع استطرادي في هذه المقالة نكتفي ها هنا منه بما يعني بحثنا.
بنو أمية وحكومة يزيد مثلوا ثورة الردة في مواجهة ثورة التغيير التي قادها الرسول (ص)، والحسين (ع) مثل ثورة الإنتصار
إن ثورة عاشوراء شكلت ما يعرف بثورة التصحيح التي يجتاجها المجتمع لإزاحة آثار ثورة الردة على معطيات ثورة التغيير التي جاء بها النبي محمد (ص) وأن هذه التسميات لا ترتبط بتفسير مادي للتاريخ الإجتماعي بل هي تلحظ السنن الإلهية فيه، ولذلك سنعتبر الإصطلاح الأوفق بقيام الإمام الحسين (ع) في عاشوراء هو "الإنتصار" كمفردة قرآنية تؤسس مفهوم القيام في وجه الحاكم الظالم الذي يصل إلى السلطان معبراً عن اتجاه عميق في العداء لمبادئ التغيير.
تستكمل ثورة الردة في أي مجتمع نجاحها بأسباب ثلاثة :
1-              المراقبة والسعي لإفشال حركة التغيير (الإنتهازية).
2-              حركة المنافقين أو ما يعرف بلصوص الثورات.
3-              الإنحراف الإجتماعي العام عن الوعي والإلتزام بالمعطيات الأساسية. فما هي طبيعة المجتمع الذي أراده الإسلام؟
إن الآيات 36 إلى 43 من سورة الشورى تقدّم لنا صورة نموذجية عن المجتمع الإسلامي كما أراده الله تعالى : "فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتولكون. والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون. والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون. وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل...".
وهذه هي الصورة العامة أما الإتجاهات التفصيلية فهي :
1-              على المستوى العقائدي، بالدعوة إلى التوحيد الخالص : "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد".
2-              على المستوى الأخلاقي الإجتماعي : "قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن".
3-              على المستوى الإقتصادي بالدعوة ليكون العمل أساس الثروة : "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل...".
4-              على المستوى الحربي يجعل الدفاع ونصرة المظلوم أساساً للقتال : "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم".
5-              أما على المستوى السياسي فقد استكملت عملية استبعاد القيم الجاهلية المادية بإعلان الولاية لله وحده، ولمن يمثل دين الله : "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يؤتون الزكاة وهم راكعون"- "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".
إلى هذا المجتمع توجّه سعي النبي محمد (ص) فأين كانت الأسباب المؤدية إلى حصول ثورة الردة؟ إن الردة التي نبحث عنها اتخذت شكلين، شكل النفاق الذي بدأ في عهد النبي (ص) وعلى حياته، وشكل الحرابة وترك الطاعة كذلك.
ونحن لا نستطيع تفسير واقعة كواقعة كربلاء بعد حوالي سبعين سنة من بعثة النبي (ص)، وما رافق هذه الواقعة من قبول على مستوى قسم من الأمة، وسكوت من قسم، واعتراض خجول من قسم آخر، إلا باعتبار حركة الردة والنفاق قد استكملت شأنها بالإمساك بالسلطة من جهة، وبتغيير ثقافة المجتمع في بعض مجالاته من جهة أخرى.
إن مسألة تداخل وتصارع الثقافات وما تؤدي إليه من استبعاد قيم وإحلال أخرى مكانها مسألة عرضها القرآن الكريم كسنة اجتماعية في قوله تعالى : "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
لقد أثار الإمام الخميني (ره) هنا السؤال عن تفاصيل يوم عاشوراء الحسين (ع) في خطبته الشهيرة عصر يوم عاشوراء من محرم سنة 1383 هـ قبل يومين من انتفاضة 5 حزيران (يونيو) 1963 الدامية :
"الآن هو عصر يوم عاشوراء..
وعندما أستعرض أحياناً أحداث يوم عاشوراء تطرح بعض التساؤلات نفسها أمامي، وهي : أنه إذا كانت غاية بني أمية وأجهزة يزيد بن معاوية هي محاربة الحسين (ع) فقط فلماذا إذاً عمدوا إلى ارتكاب تلك الجرائم البشعة اللاإنسانية بحق النساء والأطفال العزّل الأبرياء؟
وأي ذنب اقترفه هؤلاء؟ أوهل ارتكب رضيع الحسين إثماً؟
في الواقع إن غايتهم (بني أمية) كانت هدم مقومات الدين الإسلامي واجتثاث جذوره. فبنو أمية وحكومة يزيد كانوا يناهضون الإسلام، ويكرهون عائلة النبي (ص)، كانوا من ألدّ أعداء بني هاشم وكان غرضهم إبادة هذه الشجرة الطيبة".
إن "هدم مقومات الدين الإسلامي واجتثاث جذوره" الذي اعتبره الإمام الخميني (ره) غرض بني أمية جاء كما ذكرنا تتويجاً للتحريف والردة التي انتهجها المنافقون في السنوات السابقة على عام كربلاء.
ويمكن اختصار صورة انحراف المجتمع عن الصورة النموذجية التي قدمناها من قبل على الشكل التالي :
1-              في المسألة العقائدية : ظهور فكرة الجبر وانتشارها.
2-              في المسألة الأخلاقية والإجتماعية : ظهور الفسق والفجور وعموم الفاحشة وانتشارها من بيت السلطان فما دونه وما يعنيه ذلك من مخالفة أحكام الإسلام في الخمر والزنا وما إليهما.
3-              في المسألة الإقتصادية : تحول بيت المال الإسلامي إلى خزانة للسلطان ليشكل مصدر ثروة لمراكز النفوذ لا تعتمد على العمل.
4-              في المسألة الحربية : تحويل الجنود إلى القتال الداخلي بدون مراعاة لأدنى حرمة حتى بلغت الجرأة حد التهديد بهدم الكعبة الشريفة وهدمها فعلاً بعد ذلك.
5-              في المسألة السياسية : تحولت ولاية أمر المسلمين من الفقيه الديّن الورع القادر إلى ملك وراثي، يتسنمه فاسق فاجر لاعب بالقرود آخر الأمر كيزيد.
فماذا بقي من ملامح المجتمع الإسلامي الذي وصفه الله كما أوردنا من سورة الشورى.
وكما كان انقلاب يزيد على الإسلام وبغيه على المسلمين في قمة اكتمال حركة الردة والنفاق بحيث جاءت حركة الإمام الحسين (ع) في عاشوراء لمواجهته بالصدمة التي توقف هذا الإنجرار إلى الشيطان، تحرك الإمام الخميني في مواجهة طاغية عصره على ضوء الحركة الحسينية وقد كرر رضوان الله عليه السؤال عن بعض مجريات عاشوراء 61 هـ بتغيير في الشهداء في عصر ذلك اليوم من عاشوراء، 1383 هـ :
"والآن هذا السؤال يفرض نفسه : إذا كانت الأجهزة الطاغية تستهدف محاربة زعماء الدين وهي تكره علماء الإسلام فلماذا إذن مزقت القرآن أثناء شن الهجوم الغادر على المدرسة الفيضية واعتدت على طلبة العلوم الدينية؟
لقد قتلت الشاب السيد يونس الرودباري رحمة الله عليه وهو في ريعان شبابه في العقد الثاني من عمره.
فهل تعرّض هذا الشاب للشاه في شيء أو اقترف جريمة ضد الحكومة أو ارتكب إثماً بحق سلطة الجبابرة والطغاة في إيران؟" ثم أعلن رضوان الله عليه نتيجة المقارنة بقوله :
"من هذه المقارنة السريعة نستخلص بأن هذه الأجهزة تستهدف هدم أركان الدين الإسلامي وتقويض أسس الإسلام والمجتمع المتدين- إنها العدو اللدود لكيان الإسلام وتحاول إبادة صغيرنا وكبيرنا ومحو كل أثر للقرآن في هذا البلد".
وهكذا انطلقت حركة الإمام الخميني على ضوء ثقافة عاشوراء الحسين عليه السلام والتي يمكن اختصارها بعنوان "الإنتصار لدين الله ودفع الأذى الذي أريد بالمستضعفين من المسلمين". لقد كانت حركة الحسين (ع) تجسيداً للسلوك المواجه للطغيان وانطلاقاً من إرث الإمامة ومن منظومة أفكار الدين الإسلامي كاملاً. ألم يقل الرسول (ص) عن الحسين (ع) أنه إمام قام أو قعد؟ ألم يكن الحسين (ع) مصباح الهدى وسفينة النجاة حقيقة؟
إذا كانت هذه هي ملامح ثقافة الإسلام التي أنتجت عاشوراء في مواجهة الطغيان الذي أفرزته ثقافة النفاق والجاهلية، فإن عاشوراء الحسين نفسها دخلت في المروث لتشكل سابقة نموذجية تحاكى وتحتذى؟
ماذا كانت عناوين "انتصار الحسين (ع)" التي حركته؟
لقد خاطب المجتمع المنحرف بقوله :
"يا أيها الناس إن رسول الله (ص) قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله.
ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا حق من غيّر".
أليست هذه العناوين هي نفسها التي تصدى لها الإمام الخميني؟
فكيف تأتى له أن تثمر حركته ما لم تثمره حركة الإمام الحسين (ع)؟
هذا السؤال يدخلنا في صلب موضوعنا رسالة المجتمع ومسؤولياته اتجاه ثقافة عاشوراء عموماً وثقافة الإمام الخميني العاشورائية خصوصاً.
إن فقدان السلطة السياسية من أيدي الفقهاء لم يعن في تاريخنا الإسلامي فقدانهم للسلطة الإجتماعية، وهكذا فكما كان للإنحراف أن يؤدي في سبعين سنة إلى اكتمال ثورة الردة فإن السنوات بل العقود المتخالفة شهدت سجالاً وصراعاً بين قيم الردة وقيم الإسلام حتى وصل الأمر إلى يد فقيه عادل ورع عالم بشسؤون زمانه ومجتمعه، اختزن ثقافة عاشوراء ومنظومة الإسلام الكاملة فتحرك في مجتمعه ثورة وتحصيناً فكان له ما كان ولم يتخلف لحظة واحدة عن التشديد على ضرورة تحصين المجتمع ضد ثقافة الردة من جهة ومن ثقافة التحريف أو بتعبيره "ثقافة الطاغوت والإستكبار" وثقافة "الحوزويين أدعياء القداسة والمتحجرين" من جهة أخرى.
إن صورة المجتمع التي أرادها الإمام الخميني في إيران والعالم الإنساني كله هي نفسها الصورة التي رسمها الله عز وجل للمجتمع الإسلامي، ولئن كان إنكار فضل الدعاة والفقهاء السابقين بإيجاد أساس لانطلاقته تجاوزاً للعدل والإنصاف فإن تغييب ملامح منهجه (ره) العملي سيحرم الأمة من أثرى وأغنى تجاربها، وسيقلل من فرص الإستمرار بالنجاح الذي آلت إليه حركته، وستحرم بالتالي مراكز التأثير الإجتماعي من عناصر القوة التي تمكنها من الإستمرار في صيانة الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلامي الملتزم.
فما هي أسس منهج الإمام الخميني في التغيير والتحصين التي ينبغي على النخب الثقافية والسياسية أن تحفظها لكي تستكمل المجتمعات الإسلامية عملية استعادة ثقافتها الأصلية وإعادة إنتاج مفرداتها التي افتقدناها قبله كالشهادة والإيثار والتكافل والتراحم والنصح والنصرة والصبر والإستقامة وهي ملامح السلوك الإسلامي تجاه الواقع؟

مواقع القوة

حدّد الإمام الخميني (ره) في خطبة عاشوراء 1383 هـ ملامح الخطر على المجتمع الإسلامي الإيراني وبذلك حدد مواقع القوة فيه، وهذه المواقع كانت في صلب منهجه التغييري وأعطاها فيما بعد جهده التنظيري وسعيه العملي.
"إن "إسرائيل" تنوي إزالة جميع الموانع والعقبات التي تعترض سبيلها بيد عملائها المحليين.
القرآن رادع يقف في طريقها فيجب محو أثره.
وعلماء الدين أيضاً يعترضون سبيلها فيجب القضاء عليهم.
ومراكز العلم والثقافة حصون يجب أن تهدم..
وطلاب العلوم الدينية من المحتمل في المستقبل أن يقفوا سداً منيعاً بوجهها لذلك يجب قتلهم ورميهم من فوق السطوح العالية لتتهشم أيديهم وأرجلهم".
وباختصار فإن "الإنسان المسلم" هو مورد الجهد التحريفي مستقلاً بنفسه أو بصفته الإجتماعية وحيث سيكون من الصعب في هذه العجالة غير الإشارة فسآخذ من كلامه رضوان الله عليه بعضه :
إلى الشباب :
"يجب عليكم- أنتم شباب الإسلام الواعي وأمل أمتكم الإسلامية- توعية الجماهير وفضح أدوار المستعمرين وخططهم المشؤومة. أبذلوا مزيداً من الجهد في سبيل معرفة الإسلام وادرسوا تعاليم القرآن المقدسة جيداً وطبقوها، وزيدوا من سعيكم وإخلاصكم من أجل نشر الإسلام وأهدافه الكبرى وتعريف الأمم الأخرى بها.. اتحدوا وتنظموا ورصوا صفوفكم واسعوا لإيجاد الإنسان المضحي المتوافق معكم فكرياً".
-       إلى النخب العلمية :
"قيادة الأمة إلى الصلاح، ومعرفة الإسلام على وجهه الصحيح تستلزم صلاح أهل العلم وحملة الشريعة وطرد فقهاء القصور".
إلى القيادات السياسية :
"نحن نريد بقيادة نبي الإسلام (ص) تطبيق هاتين الكلمتين، "لا تَظلمون ولا تُظلمون" : ألا نكون ظالمين ولا مظلومين، طوال التاريخ كنا مظلومين من جميع الجهات ونريد اليوم ألا نكون مظلومين ولا نريد الإعتداء على أي بلد.. ولكن يجب علينا الرد على اعتداءات الآخرين".
"قوة المسلمين في إيمانهم وتمسكهم يالإسلام وفي تصديهم لقوى الظلم والطغيان في بلدانهم وفي العالم أجمع".
والكلام في توجيهاته رضوان الله عليه يطول إلا أن خلاصة فكره في تأسيس دور للنخب الإجتماعية يحمّلها مع العامة مسؤولية الحفاظ على صورة المجتمع الإسلامي تبينت من خلال بعض كلماته ويمكن أيضاً تبينها في سعيه الفعلي لا إلى مجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورتهما العامة، بل في تدخله العملي لمواجهة ومنع آثار التداخل الثقافي في بنية المجتمع الإسلامي الإيراني زمن الطاغوت وما بعده.
هذا التداخل الذي يؤدي بطبيعته وحتى لو لم يكن مداراً من الأعداء بشكل مخطط إلى حذف عناصر القوة في ثقافة المجتمع الإسلامي. هكذا نفهم تصديه لقانون الحصانة على الأميركيين في إيران، وتحريم الإنتماء إلى حزب الشاه، وفتوى تحريم العمل بالتأريخ الشاهنشاهي، وفتوى إطفاء الأنوار المعارضة لحكم الشاه بالإضاءة ليالي الإحتفالات بمرور 2500 سنة على الحكم الشاهنشاهي، وغير ذلك، من أمور.
إن رسالة المجتمع بنخبه الثقافية والإجتماعية والسياسية تتجدد بفهم الإسلام الصحيح والعمل على توريثه سلوكاً واعياً للأجيال القادمة من جهة. وبتطوير الإستجابة لمعطيات العصر على ضوء قراءة سليمة للمنظومة الفكرية؟
وتبقى عاشوراء بين هذين معلماً هاماً يدعونا للثبات في طريق الحق فإما النصر وإما الشهادة.



[1]  نص مداخلة إلى مؤتمر (الإمام الخميني وثقافة عاشوراء) الذي عقد في طهران 2 و 3 محرم الحرام 1416 - 1و2 حزيران 1995 .

ليست هناك تعليقات:

ألبوم الصور