الأربعاء، ديسمبر 07، 2011

إشكالية المضمون في الكتاب العربي , كلمة الشيخ علي خازم في مؤتمر " الكتاب العربي في مجتمع المعلومات"


إشكالية المضمون في الكتاب العربي

     قبل ستة قرون طرح عبد الرحمن ابن خلدون الاشبيلي الاصل (1322 - 1406) افكارا تتعلق بمضمون الكتاب العربي في مقدمة كتابه التاريخي المعروفة. وقد اعاد طرحها بعد ذلك بقرنين حاجي خليفة العثماني(1608-1657) في مقدمة كتابه كشف الظنون عن اسامي الكتب والفنون. ثم لفَّقَها كُلَّها مع غيرها بعد قرنين آخرين  صدًيق  حسن خان الهندي (1832-  1889) وأوردها بنصًها في كتابه ابجد العلوم.
بعض هذه المسائل طرح قبل ابن خلدون وبعده , لكنها معه أخذت صورة مختلفة , فهي الى جانب التعريف نوقشت من جانبها الوظيفي الفردي والاجتماعي في بذل العلم وفي التعلم وقيمة كل شكل من اشكال الكتاب التي ظهرت , وقد اهتم كل من حاجي خليفة و صدًيق  حسن خان بذلك جدا. واغرب ما لاحظته عندهما متابعتهما له في موقفه السلبي من العرب في السياسة والعلوم والتأليف.
اعتمدت في هذه الاوراق اسلوب مقاربة المتن قراءة مع السَلَف وتعقيبا مع الخَلَف  الذي هو نحن-على عادة الشُرَّاح من السَلَف في المزج بين المتن والشرح أو على عادة الناشرين الخَلَف في قولهم طبعة مزيدة ومنقحة- من جهات ثلاث:
1-من جهة التأليف.
2-من جهة القراءة ويتفرع عليها كلام من فقه اللغة العربية.
3-من جهة تصنيف العلوم.

1- من جهة التأليف:

  نقرأ مع  صدًيق  حسن خان في المجلد الأول الذي عنونه ب:الوشي المرقوم ، في بيان أحوال العلوم ص141 كلامه في التأليف الذي يتابع فيه من ذكرنا ويتناوله من جهات:
- المعنى
-  الحجم
- التقسيم
 فيحصر حسن خان المعنى في قسمين‏:‏
الأول‏:‏ إما أخبار مرسلة ، وهي كتب التواريخ ، وإما أوصاف ، وأمثال ونحوها ، قيدها النظم ، وهي دواوين الشعر‏.‏
والثاني‏:‏ قواعد علوم.
ولا يقدم لنا مبررا لتقييد الاوصاف والامثال بالنظم , فضلا عن تجاوزه لواقع اصناف النثر الادبي الاخرى التي كانت موجودة كالمقامة, والتي اعطت للخَلَف فرصة الاضافة على القسمين المذكورين مع التوسع في الانواع الادبية تصنيفا وتأليفا في ما اصطلح عليه بعصر النهضة مثلا.
وكذلك في القسم الاخير لايقدم مبررا لحصره في قواعد العلوم وهي مباحث نظرية , فيما شهدالمجتمع العربي الاسلامي بحوثا تطبيقية في مجالات العلوم المختلفة الا ان نقول انه لم ينظر الى غير العلوم الدينية , او بتفسير ذلك بالتراجع والتخلف في مجالات البحث العلمي في عصره ومحيطه الهندي.
وهنا ايضا يمكن ملاحظة تطور نتاج المتأخرين او ما اصطلحنا عليه بالخَلَف نوعا وكما, وقد قدم العرب منهم نوابغ في مجالات متعددة من العلوم وابداعات باللغة العربية.
    في الحجم وعلاقته بالمضمون يحصر حسن خان الكتب من جهة المقدار، في ثلاثة أصناف‏:‏
الأول‏:‏ مختصرات تجعل تذكرة لرؤوس المسائل ، ينتفع بها المنتهي ، للاستحضار، وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء ، لسرعة هجومهم على المعاني من العبارات الدقيقة‏.‏
والثاني‏:‏ مبسوطات، تقابل المختصرات، وهذه ينتفع بها للمطالعة‏.‏
والثالث‏:‏ متوسطات وهذه نفعها عام‏.‏
      وهو بهذا التقسيم , وان ربطه بالوظيفة العملية توظيفا تربويا تعليميا , لكنه تجاوز التقسيم التقليدي العربي القائل بالقسمة من حيث الحجم الى كتاب ورسالة,فضلا عن افتراضه غير المبرر ايضا باقتضاء الاختصار الحجم القليل وهذا كتاب المختصر في أخبار البشر،لأبي الفداء عمـاد الدين (ت732 هـ) في عدة مجلدات.
اما الخَلَف فقد وجدوا للحجم مبررات مؤثرة في الاتصاف بعناوين متعددة ومختلفة فللحجم دور في التقسيم بين الرواية والقصة القصيرة مثلا , بل قد يكون العكس صحيحا احيانا كما في العمل الموسوعي. فضلا عن كون الحجم اقرب الى بحث شكل مادة الكتاب منه الى مضمونه وبعبارة اخرى يضعنا امام اسلوب تفديم المضمون , الامر الذي لاحظه ملفين ديوي في عمله التصنيفي واستفاد منه الكتاب العرب فاغنوا الاقسام  الشكلية التي وضعها بعناوينها العشرة:
1- الفلسفة والنظرية.
2-  الكتب المدرسية.
3-  الموسوعات والمعاجم.
4-  المقالات والمحاضرات.
5-  المجلات والدوريات.
6-  الجمعيات.
7-  الدراسات والتعليم.
8-  المجموعات والملخصات.
9-  تاريخ.
    في التقسيم يحصر حسن خان- متابعة لمن سبقه- التأليف على سبعة أقسام‏:‏ لا يؤلف عالم عاقل إلا فيها ، وهي إما شيء لم يسبق إليه فيخترعه ، أو شيء ناقص يتممه ، أو شيء مغلق يشرحه ، أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه ، أو شيء متفرق يجمعه ، أو شيء مختلط يرتبه ، أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه‏.
    ونلاحظ هنا ان نظره - ومن سبقه - معلق دائما على التأليف دون النشر, وهو ما يفسر استبعادهم لقضية الترجمات‏ , فهي معروفة عندهم لكنها واقعة في اصلها تحت عنوان التأليف. والنظر اليها من الخَلَف جاء عملا احيائيا يقارب بداياته في العصر العباسي بحيث اقتضت الترجمة عند الخَلَف اهتماما خاصا لتعلق التطور الاجتماعي والعلمي بها , الامرالذي ادى الى نشؤ اختصاصات في الترجمة العلمية , والى احياء لجانب النحت والتأسيس اللغوي لعربية علمية عبر أكثر من مجمع للغة العربية.

2- من جهة القراءة:

   القراءة -كما هو معروف- هي الوجه الاخر للكتابة , وبالتالي فهي معنية بالمضمون بنفس القوة ولذلك نجد أن السَلَف قد تناولوا القضية من جهة التأليف ليقع تحت عنوان وظيفي يرتبط بالقارئ , لكنهم ومنهم حسن خان , لم يعرفو القارئ الا متعلما أو معلما ولذلك فانهم قد تشددوا في شروط التأليف , يقول حسن خان: وينبغي لكل مؤلف كتاب في فن قد سبق إليه أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد‏:‏ استنباط شيء كان معضلا، أو جمعه إن كان مفرقا، أو شرحه إن كان غامضا، أو حسن نظم وتأليف، أو إسقاط حشو وتطويل‏.‏
وشرط في التأليف‏:‏ إتمام الغرض الذي وضع الكتاب لأجله، من غير زيادة ولا نقص، وهجر اللفظ الغريب، وأنواع المجاز، اللهم إلا في الرمز؛ والاحتراز عن إدخال علم في علم آخر، وعن الاحتجاج بما يتوقف بيانه على المحتج به عليه، لئلا يلزم الدور‏.‏
فهو هنا لايجد قارئا للمتعة مثلا , وهو بالتالي  يسقط عن الاعتبار كل ما كتب بقصد الامتاع او انشئ من الخيال كالف ليلة وليلة مثلا , فيما نجد الخَلَف قد اكثروا في هذا الباب بل يمكن القول انهم افرطوا في الكم وفي الاشكال المطبوعة(صحفا ومجلات) وغيرها في هذا الباب.
وزاد (على شرط التأليف) المتأخرون(بالنسبة اليه) اشتراط‏:‏ حسن الترتيب، ووجازة اللفظ، ووضوح الدلالة، وينبغي أن يكون مسوقا على حسب إدراك أهل الزمان، وبمقتضى ما تدعوهم إليه الحاجة، فمتى كانت الخواطر ثاقبة، والإفهام للمراد من الكتب متناولة، قام الاختصار لها مقام الإكثار، وأغنت بالتلويح عن التصريح، وإلا فلا بد من كشف، وبيان، وإيضاح، وبرهان ينبه الذاهل، ويوقظ الغافل‏.‏
وهذه الشروط مما تنبه اليها علماء التربية في الغرب , واستفاد منها المتخصصون من الخَلَف من العرب فمازجوا بينها وبين التراث  كما فعل الكثير في مجال التعليم مثلا. ويمكننا تتبع عدد كبير من الكتب في هذا المجال.
وان تمكين القارئ أعم من المتعلم من فهم النص دلالة على حسن التأليف , والازدياد في العناوين المطبوعة بل في عدد الطبعات يشعران في الجملة بتوفر الشروط المذكورة عند كتاب الخَلَف.
 وثمة ملاحظة ايجابية جدا تسجل في هذا المجال لدار الفكر في دمشق وهي أنها قامت بعرض دليلها للنشر على صفحات موقعها الالكتروني مما يعتبر عاملا مساعدا في تأمين كتب تحظى بمستوى عال من جهة المضمون اذا ما تمت الاستفادة منه سواء لها أو لغيرها , وهذا يؤكد ان تضافر الجهود بين مؤسسات النشر العربية والمؤسسات الاكاديمية التي تعنى بتربية باحثين وكتاب قد أمّنا ويؤمنان لمضمون الكتاب العربي المعاصر المستوى اللائق والمطلوب سواء في جهتي القيمة المعنوية والمادية.

فقه اللغة العربية وتقويم  مضمون الكتاب العربي:

       ثمة مجال آخر في القراءة يمكننا منه مقاربة مضمون الكتاب العربي , وله الاثر الواضح في تقويم القارئ للمؤلف , هو مجال فقه اللغة حيث نقرأ جمعا بين التراث والمعاصرة مع الاستاذ محمد عطية الأبراشي في كتابه الآداب الساميَّة مع بحث مستفيض عن اللغة العربية ص143و 144 وفي تأليف الكتاب تقول هذا الكتاب نفيس جليل جامع غزير المادة جم الفوائد قريب المنال داني القطوف، سهل الإسلوب، عذب المورد، ناصع البيان واضح التعبير تدرك فوائده على غير مؤونة ولا كدّ ذهن ولا جهد فكر ولا إرهاق خاطر.
 وتقول: وقد تصفحت مؤلف كذا فإذا هو كتاب أنيق، حسن، فصيح الخطبة حسن الديباجة، محكم الوضع مناسب التبويب مطرد الفصول، وهو كتاب فريد في فنه مبسوط العبارة مسهب الشرح، مستوعب لأطراف الفن، قد استوعب اصول هذا العلم وأحاط بفروعه واستقصى غرائب مسائله ولم يدع آبدةً إلا قيدها ولا شاردةُ إلا ردها إليه، لم يصنف في بابه أجمع منه وقد نُزه عن التعقيد والإشكال والابهام واللبس واللغو والحشو والركاكة.
 وتقول: هذا مؤلف مختصر، وجيز وموجز، مدمج التأليف محكم الحدود، جزل التعبير، قد لُخصت فيه قواعد العلم أحسن تلخيص وحررت مسائله أحسن تحرير، وعليه شرح لطيف كافل بيان غامضه وإيضاح مبهمه وحل مشكله وتفصيل مجمله، وبسط موجزه وتقريب بعيده، والكشف عن دقائق أغراضه، ومكنون أسراره.

3- من جهة تصنيف العلوم:

        اذا كان تصنيف العلوم والمعارف البشرية وفهرسة ما وصل اليه ابن النديم اول مشتغل في هذا الفن من العرب (متوفي سنة 385ه) في كتابه  فهرس العلوم  والذي ألفه في سنة 377 لم يتجاوز في عناوينه العامة والفرعية اربعين عنوانا , وانحصرت اسماء الكتب عنده بما لايتجاوز مجلدا واحدا (لاني لم اتحقق من الرقم) , ولم يتجاوز حاجي خليفة نفسه العشرين الفا عدد كتاب , ليصل الرقم مع الآغا بزرك الطهراني المتوفي 1970 ما يقارب الستين الف كتاب لمؤلفي المسلمين الشيعة وحدهم فيما حاجي خليفة اورد للجميع بما في ذلك المكتوب باللغات الاعجمية عند كليهما , فان المكتبة العربية اليوم تمتلك بحسب تصنيف ديوي العَشري المعرَّب , وبحذف مائة وخمسين صنفا اجنبيا من الخلاصة الثالثة الالفية: ثمانمائة وخمسين  صنفا من اصناف المعارف الانسانية , تقع تحتها اسماء كتب عربية , وهي تملك ارقاما تربو على الحصر وتغطي العربي والمعرَّب منها,  بمضامين قبلتها دور النشر واصناف القراء كل بحسبه.وهذا مما يحسب للخَلَف في عالم تغطية مضامين الكتاب العربي لشتى أصناف المعرفة ويزيد في قيمته.
  

خلاصة:

    هذا العرض قد يشي بان لا مشكلات يثيرها مضمون بعض الكتب العربية او ان لا وجود لمشكلات تواجه نشر مضمون بعض الكتب العربية , وليس الامران كذلك ,  بل ثمة اشكالات كثيرة في المقامين ليس اقلُّها الرقيب الحكومي او الرقيب الاجتماعي من جهة, ودعوى الحرية من جهة مقابلة.
اضف عليها مسألة السرقة الادبية وكون المضمون غير مضمون في كثير من دولنا , فضلا عن أن النخب الثقافية تطرح للبحث  وبشكل دائم استراتيجيات مؤسسات النشر العربية سواء الحكومية او الاهلية ومدى ملاءمتها للنهضة المرجوة في عالمنا وهو امر يصل احيانا حد جلد الذات بدون مبرر.
ان عالم النشر اليوم كاي أفق عام وفي كل الاوقات يحتاج الى الرعاية والمتابعة , ويحتاج الى مساحات أوسع من الحرية والتسهيلات المادية لكنَّ ما قدمناه يضعنا أمام انجاز حضاري لاينبغي ابدا الاستخفاف به.
ونحن اذا لاحظنا ازدياد عدد دور النشر وازدياد العناوين العربية المطبوعة كل سنة والاقبال المتزايد على معارض الكتب, أدركنا ان المشكلة الحقيقية موجودة في مكان آخر , مما يعيدنا الى بحث الوظيفة الفردية والاجتماعية للمؤلف والقارئ والناشر على السواء وهو العمل الذي تميز به السَلَف عن الخَلَف. وهو الامر الذي ربما يبقى الاشكال الاكبر في عالم مضمون الكتاب العربي.
وهذا ليس قيدا للابداع فلا حدود للابداع ابدا , لكن حتى الطبيعة غير العاقلة نفسها تفرض شروطا للنمو في محيطها الحيوي فكيف بنا نحن العقلاء؟...
أخيرا , ان كان ثمة مجال للتوصية في ختام كلامي فهي الحرص على ايجاد الروح العملية في ما نكتب حيث يمكن ذلك , واستمرار رعاية الناشرين لحس وفكر ومستقبل هذه الامة العزيزة .وشكرا للداعين لهذا المؤتمر دار الهادي وديوان الكتاب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
                                                       
الشيخ علي حسن خازم
بيروت 8-5-2007














ليست هناك تعليقات:

ألبوم الصور