التواصل أو التقاطع الإجتماعي والخطاب اللبناني الشعبي
التواصل أو التقاطع الإجتماعي يؤديان إلى نتائج
مؤثرة في الحياة الإجتماعية والوطنية فضلا عن الحياة الشخصية, إما بتعزيز الثقافة
الشعبية اشتراكا أو بانغلاقها على الذات دون الآخر الشريك انعزالاً, أو في حدها الوسطي
بالتجاوز.
والثقافة الشعبية بطبيعتها المشتركة والجدلية
تعتبر أهم عوامل الوحدة الإجتماعية والوطنية وهي نتاجها ايضاً, تلقائية وعفوية أو
واعية للخيار, قاصدة أم محاكاة وتربية وتَعَوُّدا.
وهي بالتالي مؤثّرة في وحدة الشعور بالإنتماء
إلى الكيان السياسي الواحد أو دافعة باتجاه تقسيمه لتتطابق الأقسام مع الثقافتين
الشعبية والنخبوية الخاصة.
وهذا يرتب على من ارتضى الحفاظ على الوحدة
الوطنية من هذا المدخل أن يعمل على تعزيز المشتركات في الثقافة الشعبية بتوجيه
التدخل الثقافي النخبوي ليكون تحت سقف الوحدة الوطنية مع عدم التخلي عن الخصوصيات,
وهي سياسة ممكنة ولا تحتاج إلى النفاق بل لا يجوز فيها النفاق, وهذه السياسة يفترض
أن تكون موضوعا للحوار بين النخب لا في الشوارع وما صار مثل الشوارع من وسائل
الإعلام .
الإحتفاء بالمناسبات والأعياد
من مظاهر الثقافة الشعبية المشتركة في لبنان
الإحتفاء بالمناسبات والأعياد إذا استثنينا منه ما تفرضه مقابلتها "الثقافة
الدينية" أو الخاصة بكل مكون إجتماعي "كالقومية عند الكرد
والأرمن", فإن لمظاهر الفرح والتزين الشخصي والتزيين المنزلي وخطاب التهنئة
صوراً مشتركة وكان الإشتراك يصل إلى أنواع "الحلويات الوطنية" مع اختصاص
بعض المدن الكبرى بأنواع غالبا ما كانت الطبيعة سببه الأساس, وقبل وصول التداخل
الثقافي إلى مطابخنا التي هضمته أيضا وأعادت تحويله "وطنيا".
وكذلك في المناسبات الحزينة. ومع الاستثناء
السابق كان المشترك الشعبي كثيرا لجهة مظاهر الحداد والامتناع عن أشكال الفرح وما
يمكن أن يعد من مظاهر الشماتة كمضغ العلكة أو "قصقصة البزر". فهذا
المشترك كان يشمل الجيران فضلا عن الأقارب إلى حد إغلاق الراديو ولاحقا التلفزيون,
والنعي بالزجل (الشعر الشعبي اللبناني) قبل تشييع الجنازة, وتقديم الرايات
والسناجق أمامها, وإقامة ذكرى الأسبوع والأربعين على اختلاف في الذكرى السنوية
التي عرفها المسيحيون ولم يعرفها المسلمون إلا مؤخرا, ومع التدخل الديني لاعتماد
أيام التعزية ثلاثة عند المسلمين تبعا للنصوص, أو معه إضافة للعامل الإقتصادي الذي
ينهك أهل الميت انتشرت ظاهرة الإكتفاء بالتعزية مدة ثلاثة أيام مع الإختلاف في
عدها بإدخال يوم التشييع كما في بيروت والجنوب أو عدمه كما في ساحل المتن الجنوبي.
وتدخل العامل الاخير لإقامة مجالس العزاء بين العصر والمغرب- سواء اكتفي بالأيام
الثلاثة أو في الأسبوع والأربعين- مما يرفع الحاجة إلى الإطعام ظهرا العملية التي
كانت تظهر الفوارق الإجتماعية لصالح الأغنياء فترهق غير القادرين استدانة أو حتى
بيعا لما يؤمن كلفة المآدب تقليدا لمن يريد محاكاتهم ,مع بقاء ظاهرة تعاون الجيران
والأقارب في الإطعام يوم التشييع وربما في غيره.
اللغة العربية كبنية والخطاب الشفهي كتعبير
ومن مظاهر الثقافة الشعبية المشتركة: اللغة
العربية كبنية والخطاب الشفهي كتعبير, فاستخدام اللغة العربية ورديفتها العامية
بخصوصيات صوتية ومفردات مختلفة أمر مشترك بين اللبنانيين مع تميز المسيحيين
بالسريانية كلغة نخبوية دينية موروثة والفرنسية أو بعض تعابيرها بتدخل العامل
الاستعماري السياسي, أو التميز بلغة قومية كالكردية والأرمنية والتركية.
ومع تميز عند المسلمين الشيعة بدخول العامية
العراقية لهجة ومفردات في الستينيات على مجالس العزاء العاشورائية ولاحقا اللهجة
واللكنة الفارسية في الثمانينيات بسبب الحضور القوي للقراء وغيره من الأسباب.
وفي
خصوص الخطاب فمنه ما يتعلق بالتحية اليومية, ومنه ما يتعلق بالتهنئة, ومنه ما
يتعلق بالمواساة, سواء في المناسبات الشخصية أو الدينية أو الوطنية العامة أو
الشخصية الدينية كسفر الحج والزيارة والعودة منها.
في محيطي الإجتماعي ,ساحل المتن الجنوبي[1][1] الذي ولدت وترعرعت فيه
وأنا اليوم في سن السابعة والخمسين أذكر التالي:
على مستوى التحية اليومية في الزيارة وعند
الإقتراب من المنزل إذا كان مستقلا أو عند بابه إذا كان في بناية كنا نسمع عبارة
" يا ألله" وعبارة "وينكن؟" وجوابها: "أهلا وسهلا تفَضّل".
في الملاقاة كان الرائج عبارات: "صَباح
الخير ومَسا الخير" وجوابها: "صباح النور ومسا النور"، ومن الظهر
إلى المساء:"سَعيدي"(سعيدة) وجوابها:"سعيدي مبارَكي"(سعيدة
مباركة). وقد استُبدلت إلى حد كبير بالتحية الإسلامية مختصرة:"السلام
عليكم" وجوابها: "وعليكم
السلام" أو تامة بإضافة "ورحمة الله وبركاته"عليهما.
ونسمع ونشهد منذ فترة عبر الإذاعات والتلفزيونات
تحية المسيحيين بعضهم بالقول "سلام المسيح معك" وجوابها طلب المباركة
للملقي بفعل التدخل الثقافي الديني.
ومن الطريف أن البعض عند المسلمين مبالغة منه
وفي محاولة إظهار تمسكه بالدين يحيِّي بقول "السلام على من اتبع
الهدى" بحذف الواو من آية قرآنية[2][2] وهي حكاية خطاب سيدنا
موسى وأخيه لفرعون مصر وفيها تعريض بأنه ليس ممن اتبع الهدى. وفي هذه الأيام نشهد ونسمع إختصارا عجيبا وهو قول
" سلام " هكذا مجردة عند اللقاء أو الوداع.
في المغادرة القريبة: "بخاطِركُن"
وجوابها: "مع السلامة". وفي السفر البعيد: "بخاطِركُن واستُرو ما
شفتو مِنا وسامْحونا" وجوابها "ألله يسَهِلَّك وتروح وترجع
بالسلامة".
أما
المتعلق بالتهنئة أذكر أننا لم نعرف التهنئة بالعيدين (الفطر والأضحى) والمولد
النبوي إلا بعبارات "كل عام وإنت/انتو بخير" و "ينعاد عليكم"
بخلاف ما استجد بفعل تدخل الوعي "النخبوي الديني العلمائي" حيث تشيع
عبارة "أسعد الله أيامكم" وما نجده اليوم من اختصاص تجاري يبيع عبارات
تهنئة جاهزة ليجري تداولها في الرسائل النصية.
ولم تكن ثمة تهنئة خاصة بدخول شهر رمضان (شهر
الصوم عند المسلمين) وهي التي يتم تبادلها اليوم على الشكل التالي: "رمضان
كريم" وجوابها "ألله أكرم", ففضلا عن انعدام الأصل لها في الثقافة
الدينية فإنها دخيلة من الثقافة الشعبية المصرية بفعل الراديو والتلفزيون, وصارت
مؤخرا عادة منتشرة إلى حد كبير في جيلي والأجيال اللاحقة وإن لم تهضمها أجيال أمي
وأبي بعد فنراهم متحيرين في سياقة جواب على عبارة "رمضان كريم" التي
يرفضها البعض بفعل تدخل الوعي الديني تقويما.
كذلك لم نعرف ظاهرة إحياء أعياد الميلاد الشخصية
وأعياد الزواج. حتى ولادات ووفيات الأئمة وعيد الغدير لم تكن بالإنتشار الواسع
الذي حصل بتدخل النخب الدينية والأحزاب.
أما بخصوص خطاب التعزية والمواساة فقد شهدتُ
-كما في التهنئة- التغيير بفعل تدخل الوعي "النخبوي الديني الإسلامي"
برفض العبارات المشتركة "العوض بسلامتكن, العمر إلكن" وجوابها
"ألله يسَلمك ويسلم أحبابك", لصالح "بسلامة الدين والإيمان"
و"ألله يرحمو أو يرحمها" وجوابها "يرحم أمواتك" أو
"عظَّمَ الله أجركم" وجوابها "شكَرَ الله سعيكم", على أنني
أشهد في المجلس الواحد, في حسينيات[3][3] المنطقة وبيوتها وفي
غيرها, كل هذه العبارات معا. وهذا يرجع من جهة إلى استمرار التواصل الإجتماعي
المسيحي الإسلامي في هذه المناسبات وإلى وجود أجيال من المسلمين لم تهضم ذلك
التدخل لأسباب متعددة.
كيف يخاطب اللبنانيون بعضهم في المناسبات الخاصة؟
مفاجأة اللبناني المسلم الشيعي في عاشوراء بمخاطبته من غيره بالمعايدة وفق الصور السابقة في خطاب التهنئة تربكه, فهو يشعر باهتمام الآخر بإظهار عاطفته تجاهه وفي نفس الوقت ولولا حسن الظن لاعتبرها شماتة بفقد رمز ديني مقدس من رموزه.
سألني جاري ماذا سنقول لعائلة جارنا المسيحي الذي فقدناه
ونحن بصدد زيارة أهله للتعزية, الغريب في السؤال أن السائل كان في سن والدي وابن
إحدى أهم عائلات حماة وديبلوماسي في السفارة السورية في فلسطين قبل تقاعده, مما
يعني أنه كان على صلة بكل فئات المجتمع لكنه عاش الإنقطاع في لبنان.
إن مفاجأة المسلمين قبل المسيحيين بفتاوى تحريم
تهنئة المسيحيين في أعيادهم ودخولها على خط قطع التواصل تحرم الثقافة الشعبية من
فرصة ابتداع حل للمشكلة إن كان ثمة مشكلة لم تستطع الثقافة النخبوية حلها.
فكما كان التواصل عاملا في توحيد أوتقريب مفردات الخطاب وكذلك التدخل الواعي من كثير من رجال الدين والفكر والسياسة, جاءت الحروب الداخلية - إضافة إلى التدخل السلبي لقسم من هؤلاء بالتعاون مع بعض أصحاب رؤوس المال[4][4]- لتهجِّر الناس وتعيد موضعتهم طائفيا ومذهبيا في عملية قطع للتواصل الإجتماعي .
مما تقدم يظهر أن التدخل النخبوي والفرز
الديمغرافي وخطف الدولة ومنعها عن دورها في حراسة الثقافة الشعبية وتعزيزها جاءت
كلها لتفسر المفاجاءات التي أشرت إليها بجهل لغة الخطاب مع الآخر.
وأشعر أنَّ ثمة مسؤولية على علماء الإجتماع
والانتروبولوجيا في ضرورة المبادرة للمساهمة بحلول بدلا من الحياد السلبي
والاكتفاء بالتوصيف .
ما هو
الدور والوظيفة ؟ إنه شأنكم الوطني .
أخيرا نحن اليوم في زمن الصوم عند المسيحيين
ومقبلون على أعيادهم فهل يعرف غير المسيحي كيفية مخاطبتهم فيها؟
أقول لكل الأصدقاء المسيحيين: "كل عام
وأنتم بخير وينعاد عليكم بهداوة البال".
[1][1] الشياح والغبيرة وحارة
حريك وبرج البراجنة وتحويطة الغدير- المريجة , وشواطئها من المدورة شمالا إلى
أشكول أو ما يعرف اليوم بآثار خلدة وقريبا مما كان يعرف بعمود خلدة وهو عمود إرسال
إذاعة الشرق الأدنى ,وهو حد الغربة لأبناء هذه البلدات جنوبا .
[2][2] فَأْتِيَاهُ
فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا
تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ
اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى
مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48), سورة طه
[3][3] حسينيات:
قاعات مخصصة في المدن والقرى تستخدم عند المسلمين الشيعة لإحياء ذكرى استشهاد
الإمام الحسين في شهر محرم , وتستعمل سائر السنة لتقبل التعازي وإحياء المناسبات
الدينية.
[4][4] يظهر دور رجال الدين
الرسميين أو المتصدين للإفتاء شعبيا وإعلاميا سلبيا عندما يدعو علنا للقطيعة مع
الآخر كما ظهر في فتاوى تحريم تهنئة المسلمين المسيحيين بالأعياد , فبدلا من توجيه
القضية بحيث يسهم حلها في ابتداع صيغة توصل التهنئة ولا تتخلى عن المعتقدات مما
يعزز المشاركة والإرث الثقافي المشترك , صار الحل بالإساءة إلى الذات وإلى الآخر .
ويظهر دور أصحاب رؤوس الأموال السلبي بدعم التقسيميين من جهة وباستغلال حاجات
الناس وسدها في محيطها الإجتماعي دون الحاجة للإتصال بالآخر , وهذا ما يفسر ظاهرة
كظاهرة غياب محطات المواصلات المركزية والأسواق المركزية المتخصصة عن العاصمة كما
كانت قبل الحروب ,وكما هي في أي عاصمة محيطة نزورها , بل وتحويلها إلى منطقة
سياحية بلا ثقافة وطنية .