الفكر التكفيري حرف لرسالة المبعث النبوي الشريف عن أهدافها
وتضييع لمقاصدها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , وبعد.
تحوّل "التكفير" في ظاهر معناه اللغوي والشرعي عن دلالته
التي عرفتها اللغة والثقافة الإسلامية ليدل على مركّب من التفكير والسلوك يتجلى في
ظاهرة جماعات الإرهاب الدموي المعاصرة وسلوكها, وهذا التحول يعتبر أول وأخطر
انحراف برسالة الإسلام عن ما بعث به سيدنا محمد صلى الله عليه وآله:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
[الأنبياء : 107]
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا
وَنَذِيرًا} [الفرقان : 56]
ليس هذا الإنحراف هو الأول في تاريخ الإسلام السياسي والإجتماعي بل هو
الأول في سلّم انحرافات هذه الجماعات, وما الدراسات المعاصرة – بغض النظر عن
غايتها وقيمتها - التي استعادت التاريخ الدموي في حياة المسلمين بدءا من صدر
الإسلام والخوارج وانتهاءً بالسلطنة العثمانية عنكم ببعيدة.
وهو الإنحراف الأخطر, لأنَه صار عمدةَ مظاهر تشكيل عقدة الخوف من
الإسلام "الإسلاموفوبيا" التي انتشرت ولم تقف عند غير المسلمين بل ضربت
بآثارها مجتمعاتنا الإسلامية, مستدعية التشكيك بأحقية هذا الدين بين أبناء
المسلمين أنفسهم لينتهي الأمر بتحول حتى بعض قادة هذه الجماعات إلى النصرانية
ووفقًا لدراسة "المؤمنون
في المسيح من خلفية مسلمة": وهي دراسة أجريت من قبل جامعة سانت ماري الأمريكيّة
في تكساس سنة 2015 وجدت في إحصاء عالمي أن عدد المسلمين المتحولين للديانة المسيحية
بين سنوات 1960-2015 يصل إلى حوالي 10.2 مليون نسمة...
--------------
الإنحراف السلوكي عن الإسلام المحمدي بما هو سلوك قد ينشأ عن لامبالاة
شخصية بمراعاة الأحكام الدينية وهذا أبسط وأدنى أنواع الإنحراف المنتشر في
مجتمعاتنا, أما أعقدها فهو الناشئ عن انحراف في التفكير والذي يستمد أصوله من
التاريخ البعيد والقريب المتجلية في التطرف الديني.
التطرف الديني ظاهرة إجتماعية تتجلى في الميل نحو الغلّو في الإعتقاد
وفي الممارسة مرة, ونحو الإنعزال أو التخفف مرة أخرى.
والإسلام ليس بدعا في نشوء ظاهرة الغلّو هذه فقد عرفتها اليهودية
والمسيحية بل وحتى الماركسية والعقائد الفلسفية الأخرى.
إن الدعوة إلى مراجعة ونقد ظاهرة الغلو في الواقع وفي "التراث
الديني" الإسلامي وتصحيحه تحتاج إلى وقفة تأمل لأنها وعلى براءة بعض دعاتها
من التشكيك في نواياهم لم تعد تحتمل أصالة البراءة بعد أن تبناها جورج بوش سنة 2009 وفرض نقاشها على حكام العالم الإسلامي, وإن هذه المراجعة لا تكون
صادقة ومخلصة إذا قام بها جماعة قال عنهم الغربيون Apologists (الإعتذاريون) وعلى طريقتهم
في البحث Apologetic (الإعتذارية).. وهم الباحثون
الذين يحاولون عرض أحكام الإسلام بطريقة لا هدف لها إلا إرضاء الشعور الغربي – أو ذلك
هدفها الأساسي – كما قال الدكتور محمد سليم العوّا.
الكلام عن موضوع الندوة: الفكر التكفيري
وتحريفه لرسالة المبعث النبوي الشريف يحتاج إلى تعيين إطار زماني نتلمس فيه مظاهر هذا الإنحراف المتعددة, والبحث
عن أسباب التحريف لتحديد الوظيفة الشرعية أزائه.
ومما لا ينبغي تغييبه عن الذهن في هذا العمل أن لا نقع أسرى الفكرة
المشبوهة القائلة بالتولّد الذاتي لهذا الفكر مصدرا, فإن العامل السياسي (الداخلي
والخارجي) بات من الظهور بما لا يدع مجالا للشك فيه كمصدر إلا عند الغبي أو
المتورط في المؤامرة للتخويف من الإسلام.
بل يمكنني القول ودون أي مجازفة إن بعض المتصدرين للدعوة إلى نبذ
التطرف واقعون فيه إذا اعتبرنا التعصّب أحد مظاهر الإنحراف السلوكي, وإلا فماذا
نسمي - بعيدا عن موقفي وتقويمي للفكرة – التشديد على مرجعية المذهب الشافعي في مصر
والمالكي في المغرب والجزائر من الجهات الدينية والرسمية في حين انتقد هؤلاء
أنفسهم اشتمال الدستور الإيراني على مرجعية المذهب الشيعي .
وإذا كانت قراءة التاريخ بعقلية متعصبة من مظاهر الإنحراف الفكري فإن
مثاله يتجلى في التأريخ للمبعث النبوي الشريف كما للإسراء والمعراج بهذا الكم من
الأقوال المختلفة التي لم أجد تفسيرا منطقيا لها غير إبعادها عن أن تكون من أيام
الله التي تعظِّم حق نبينا عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
ويتجلى تأثير العامل السياسي (الداخلي والخارجي ) في إثارة روح التعصب
في مثال بعض المفتين أو في موقف شيخ الأزهر الشريف الذي بعد أن كتب رسالة شكر
فيها لآية الله العظمى السيد الخامنئي حكمه وفتواه بشأن السيدة عائشة والصحابة رضوان
الله عليهم وبعد صدور مواقف مماثلة من مراجع الشيعة أعاد ولأكثر من مرة تكرار
مطالبته بموقف شرعي من مراجع الشيعة.
وهذا الأمر نفسه من مظاهر الإنحراف السلوكي الدال على انعدام الثقة
والتصديق وقبول قول الآخر خلافا لحمل المسلم على الأحسن الذي يأمر به الإسلام,
وإذا كان الشيعة سيعاملون دائما على أن مواقفهم تندرج تحت عنوان التقية فمتى يمكن
التعايش معهم؟
--------------
أيها الأخوة
مظاهر الإنحراف عديدة على مستويي الإعتقاد والسلوك ولها آثار تكليفية
ووضعية وبعضها تجتمع ويجتمع حكمها وهو مما لا يغيب عنكم أساتذتي وإخواني والبحث
فيها يطول.
وأختم بالقول: إخواننا الفلسطينيون يخوضون معركة التحرير؛ سواء الأسرى في السجون والأسرى
تحت الإحتلال.
لم تكن لنا يد في الاختلافات فلتكن أيدينا
معا في تحرير المسرى والأسرى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الثلاثاء، 25 نيسان، 2017