الاثنين، أغسطس 24، 2009

جوارحك.. هل تصوم؟

جوارحك.. هل تصوم؟

تتوجه الاحكام الشرعية الى نفس الانسان المكلَّف، والانسان امام التكليف هو مجموع الجسد وقواه، وعلى هذا فان الحكم بوجوب صوم شهر رمضان يقتضي التزام كامل الجسد بما يتعلَّق بكل عضو منه ليتحقّق الصوم .فانّ‏َ أعضاء الجسد التي تتحرك بارادة الانسان هي اداة تحقق الصوم او الافطار.

ومعروف أنّ‏َ الصوم المفروض بعناوينه الأساسية يتعلق بأمور مباحة في الأصل ليمتنع الانسان عنها، أو يتأكد المنع في بعض مكملات الصوم كالكذب على الله ورسوله, في مقابلها يتأكد الإستحباب في بعض الموارد .

واذا نظرنا الى المفطرات الممنوع منها الانسان حال صومه مقارنة باعضاء الجسد وجدنا انّ الاكل والشرب مثلاً يتعلقان باليدين والفم والاسنان واللسان والحلق والبلعوم الى اخر المطاف , ان لم نذكر الرجلين كاداة حركة للوصول والاتيان بالطعام والشراب، كل هذه كوسائط لإشباع حاجتي الجوع والعطش اللتان تتعلقان بمجموع الجسد وقواه كما ذكرنا.

وهكذا يرتبط كل مفطِّرٍ بعدد من اعضاء الجسد وحاجاته.

فهل يمكن الكلام عن الجوارح مستقلة عن الانسان؟

واذا كان الصوم هو الامتناع امتثالاً وقربة الى الله تعالى , فهل يمكن الكلام عن صوم لجوارح الانسان خارج المفطرات المعروفة تبعاً لارتباط وتعلق ارادة الانسان بجسده؟ أو عن صوم من نوع اخر غيره ويختص بالجوارح نحترز به لها عن النار؟

هذه عناوين أسئلة ثلاثة سنحاول الإجابة عليها إن شاء الله تعالى

على صعيد هذه الدنيا، وفي ما يبدو لنا وجوداً ظاهراً يصعب الكلام عن استقلال للجسد عن نفس الانسان ، لكن لو دققنا قليلاً لوجدنا ان ذلك ممكن ودليله من جهتين شرعية ووجدانية , وقبل بيانها ينبغي التأكيد على أن القسمة هنا ذهنية لاخارجية بحيث لا يتصور وجودان مستقلان لنفس الإنسان في جهة ولجسده في جهة أخرى .

فمن ناحية شرعية هكذا نفهم ما جاء في رسالة الحقوق عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين بشأن أعضاء البدن ,حيث قال عليه السلام :

" إعلم أن لله عز وجل عليك حقوقا محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنة سكنتها، أو حال حللتها أو منزلة نزلتها أو جارحة قلَّبتها أو آلة تصرفت فيها. فأكبر حقوق الله تعالى عليك ما أوجب عليك لنفسه من حقه الذي هو أصل الحقوق، ثم ما أوجب الله عز وجل عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك، على اختلاف جوارحك، فجعل عز وجل للسانك عليك حقا، ولسمعك عليك حقا، ولبصرك عليك حقا، وليدك عليك حقا، ولرجلك عليك حقا، ولبطنك عليك حقا، ولفرجك عليك حقا ، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال.

ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقا"

ومن الناحية الوجدانية فإننا نلاحظ ادراك المعتاد او المدمن على أمر من الأمور وصول جسده الى حالة الاحتياج المادي الى المادة المدمن عليها ، فلو أراد الامتناع عنها فجأة لتداعت اعضاؤه الجسدية في طلبها بحيث تحرك ارادته في طلب الحصول عليها لاشباع حاجته الجسدية لها.

نعم قد يقال أنّ‏َ هذا نوع من الإضطرار أو الإكراه المادي ونفس الانسان هي المسؤولة نهاية الأمر عن تنظيم الحركة في الطلب لما يشبع الرغبة، ها هنا تظهر الصعوبة في اثبات استقلالية اعضاء الجسد في ارادة شي‏ء أو فعل أو احساس، لكنّ‏َ الاخرة تثبت لنا أنّ‏َ هذه الأعضاء كانت تملك استقلالية بنحو ما. وهو ما عبَّر به اهل النار من الذين خسروا أنفسهم بغلبة الشقوة عليهم فالإضطرار قد يكون بسبب خارجي حتى يفعل منقاداً كما في قوله تعالى في سورة لقمان: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } الآية 24 , أو بسبب داخلي : بقهر قوة الحاجة: إمَّا أنَّه يناله بدفعها هلاك كالجوع كما في قوله تعالى في سورة المائدة : {... فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } الآية 3 أو لا يناله بدفعها هلاك كمن غلب عليه شهوة خمر أو قمار, وهو ما أشار إليه قوله تعالى في سورة المؤمنون{ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } الآية - 106 وتفسير الشقوة يتبين من قولهم في الآية التالية : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } الآية - 107 , فإن مرادهم من فَإِنْ عُدْنَا هو الأعمال المؤدية إلى الشقاء أو هو وصف لها بالشقاوة , وفي كلاهما دلالة على أنها كانت غالبة عليهم بحيث لم يتمكنوا من دفعها .

قد لا نثبت لاعضائنا استقلالية كاملة في هذه الدنيا بمعنى كونها عاقلة مقابل نفس الانسان العاقلة المسؤولة في جنبتها الروحية، لكنَّها عاقلة بمعنى اخر هو قابلية الحفظ والاداء للشهادة في الاخرة كما جاء في القران الكريم من سورة فصلت:

»ويوم يحشر اعداء الله الى النار فهم يوزعون حتى اذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شي‏ء وهو خلقكم أوَّل مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أنّ‏َ الله لا يعلم كثيراً مما تعملون«.

أو من سورة يس: »اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون«65.

أو من سورة النور: »يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون« 24.

ومعنى قوله تعالى في سورة فصلت »وما كنتم تستترون ان يشهد عليكم..« الاية 22 يظهر منه في كلام الامام زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق حيث يقول:

»وحق الصوم أن تعلم أنَّه حجاب ضربه الله عز وجل على لسانك وسمعك وبصرك وبطنك وفرجك ليسترك به من النار، فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك«.

وبملاحظة انّ‏َ ما يعمل في الخفاء لا شهود عليه فلا يُعرف الاَّ بالاقرار يظهر ايضاً معنى من معاني الحديث القدسي »كل عمل ابن ادم هو له غير الصيام هو لي وأنا أجزي به«. ها هنا شهود تخرق الستر وتبدي ما خفي من عمل وتؤدي بصاحبه الى الجزاء الذي يستحقه.

انّ‏َ الحجاب الذي ضربه الله عز وجل على اللسان والسمع والبصر والبطن والفرج »... ليسترك به من النار« هو نتيجة امتناع هذه الاعضاء كلها عن فعل ستكون عاقبة الشهادة به النار وحتى نصل بأنفسنا واعضائنا الى الاحتجاب عن النار كان افتراض الصوم عليها جميعاً. يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام مبينا نوعي الصوم :

»صوم الجسد الامساك عن الاغذية بارادة واختيار خوفاً من العقاب ورغبة في الثواب والاجر، صوم النفس امساك الحواس الخمس عن سائر الماثم وخلو القلب من جميع اسباب الشر«.

وعلى هذا الاساس، فاذا كان صوم شهر رمضان عن المباحات في غيره، يفيد فيما يفيد به اعتياد النفس وتدريبها على الامتناع عن المحرمات فيه وفي غيره أن تطلبها، وهكذا تدريب واعتياد يشملان اعضاء الجسد فتتخلص ايضا من الاحتياج المكره للنفس على ارادة المحرم في شهر رمضان وفي غيره من الشهور والايام، فكان على الانسان ان يلتفت الى رعاية هذه الاعضاء تأهيلاً لها لتكون عوناً لنفسه لا عدوا لها، ولها بعد ذلك حقوق كما يعلمنا الامام زين العابدين عليه السلام:

».. وحق اللسان إكرامه عن الخنى، وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها والبر بالناس وحسن القول فيهم.

وحق السمع: تنزيهه عن سماع الغيبة وسماع ما لا يحل سماعه.

وحق البصر: أن تغضه عما لا يحل لك وتعتبر بالنظر به.

وحق يدك: أن لا تبسطها الى ما لا يحل لك.

وحق رجليك: أن لا تمشي بها الى ما لا يحل لك، فبهما تقف على الصراط فانظر ان لا تزل بك فتردى في النار. وحق بطنك: أن لا تجعله وعاءً للحرام ولا تزيد على الشبع.

وحق فرجك: أن تحصنه عن الزنا وتحفظه من أن ينظر إليه«.

وهذه الحقوق ترجع في حقيقتها الى الصوم او الإمتناع الخاص بكل واحد من الاعضاء والجوارح عبَّر عنها الامام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام بقوله:

»اذا اصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك من الحرام، وجارحتك وجميع اعضائك من القبيح..« ولذلك كان من دعاء الامام زين العابدين عليه السلام إذا دخل شهر رمضان ».. واعنّا على صيامه بكف الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك حتى لا نصغي باسماعنا الى لغو، ولا نسرع بابصارنا الى لهو، وحتى لا نبسط ايدينا الى محظور، ولا نخطو باقدامنا الى محجوز«.

امين رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

ألبوم الصور