تتوجه الاحكام الشرعية الى نفس الانسان المكلَّف، والانسان امام التكليف هو مجموع الجسد وقواه، وعلى هذا فان الحكم بوجوب صوم شهر رمضان يقتضي التزام كامل الجسد بما يتعلَّق بكل عضو منه ليتحقّق الصوم .فانَّ أعضاء الجسد التي تتحرك بارادة الانسان هي اداة تحقق الصوم او الافطار.
ومعروف أنَّ الصوم المفروض بعناوينه الأساسية يتعلق بأمور مباحة في الأصل ليمتنع الانسان عنها، أو يتأكد المنع في بعض مكملات الصوم كالكذب على الله ورسوله, في مقابلها يتأكد الإستحباب في بعض الموارد .
واذا نظرنا الى المفطرات الممنوع منها الانسان حال صومه مقارنة باعضاء الجسد وجدنا انّ الاكل والشرب مثلاً يتعلقان باليدين والفم والاسنان واللسان والحلق والبلعوم الى اخر المطاف , ان لم نذكر الرجلين كاداة حركة للوصول والاتيان بالطعام والشراب، كل هذه كوسائط لإشباع حاجتي الجوع والعطش اللتان تتعلقان بمجموع الجسد وقواه كما ذكرنا.
وهكذا يرتبط كل مفطِّرٍ بعدد من اعضاء الجسد وحاجاته.
فهل يمكن الكلام عن الجوارح مستقلة عن الانسان؟
واذا كان الصوم هو الامتناع امتثالاً وقربة الى الله تعالى , فهل يمكن الكلام عن صوم لجوارح الانسان خارج المفطرات المعروفة تبعاً لارتباط وتعلق ارادة الانسان بجسده؟ أو عن صوم من نوع اخر غيره ويختص بالجوارح نحترز به لها عن النار؟
هذه عناوين أسئلة ثلاثة سنحاول الإجابة عليها إن شاء الله تعالى
على صعيد هذه الدنيا، وفي ما يبدو لنا وجوداً ظاهراً يصعب الكلام عن استقلال للجسد عن نفس الانسان ، لكن لو دققنا قليلاً لوجدنا ان ذلك ممكن ودليله من جهتين شرعية ووجدانية , وقبل بيانها ينبغي التأكيد على أن القسمة هنا ذهنية لاخارجية بحيث لا يتصور وجودان مستقلان لنفس الإنسان في جهة ولجسده في جهة أخرى .
فمن ناحية شرعية هكذا نفهم ما جاء في رسالة الحقوق عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين بشأن أعضاء البدن ,حيث قال عليه السلام :
" إعلم أن لله عز وجل عليك حقوقا محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنة سكنتها، أو حال حللتها أو منزلة نزلتها أو جارحة قلَّبتها أو آلة تصرفت فيها. فأكبر حقوق الله تعالى عليك ما أوجب عليك لنفسه من حقه الذي هو أصل الحقوق، ثم ما أوجب الله عز وجل عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك، على اختلاف جوارحك، فجعل عز وجل للسانك عليك حقا، ولسمعك عليك حقا، ولبصرك عليك حقا، وليدك عليك حقا، ولرجلك عليك حقا، ولبطنك عليك حقا، ولفرجك عليك حقا ، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال.
ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقا"
ومن الناحية الوجدانية فإننا نلاحظ ادراك المعتاد او المدمن على أمر من الأمور وصول جسده الى حالة الاحتياج المادي الى المادة المدمن عليها ، فلو أراد الامتناع عنها فجأة لتداعت اعضاؤه الجسدية في طلبها بحيث تحرك ارادته في طلب الحصول عليها لاشباع حاجته الجسدية لها.
نعم قد يقال أنَّ هذا نوع من الإضطرار أو الإكراهالمادي ونفس الانسان هي المسؤولة نهاية الأمر عن تنظيم الحركة في الطلب لما يشبع الرغبة، ها هنا تظهر الصعوبة في اثبات استقلالية اعضاء الجسد في ارادة شيء أو فعل أو احساس، لكنَّ الاخرة تثبت لنا أنَّ هذه الأعضاء كانت تملك استقلالية بنحو ما. وهو ما عبَّر به اهل النار من الذينخسروا أنفسهم بغلبة الشقوة عليهم فالإضطرار قد يكون بسبب خارجي حتى يفعل منقاداً كما في قوله تعالى في سورةلقمان: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } الآية24 , أو بسبب داخلي : بقهر قوة الحاجة: إمَّا أنَّه يناله بدفعها هلاك كالجوع كما في قوله تعالى في سورة المائدة : {... فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الآية 3 أو لا يناله بدفعها هلاك كمن غلب عليه شهوة خمر أو قمار, وهو ما أشار إليه قوله تعالى في سورة المؤمنون{ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } الآية -106 وتفسير الشقوة يتبين من قولهم في الآية التالية : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } الآية - 107 , فإن مرادهم من فَإِنْ عُدْنَا هو الأعمال المؤدية إلى الشقاء أو هو وصف لها بالشقاوة , وفي كلاهما دلالة على أنها كانت غالبة عليهم بحيث لم يتمكنوا من دفعها .
قد لا نثبت لاعضائنا استقلالية كاملة في هذه الدنيا بمعنى كونها عاقلة مقابل نفس الانسان العاقلة المسؤولة في جنبتها الروحية، لكنَّها عاقلة بمعنى اخر هو قابلية الحفظ والاداء للشهادة في الاخرة كما جاء في القران الكريم من سورة فصلت:
»ويوم يحشر اعداء الله الى النار فهم يوزعون حتى اذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شيء وهو خلقكم أوَّل مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أنَّ الله لا يعلم كثيراً مما تعملون«.
أو من سورة يس: »اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون«65.
أو من سورة النور: »يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون« 24.
ومعنى قوله تعالى في سورة فصلت »وما كنتم تستترون ان يشهد عليكم..« الاية 22 يظهر منه في كلام الامام زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق حيث يقول:
»وحق الصوم أن تعلم أنَّه حجاب ضربه الله عز وجل على لسانك وسمعك وبصرك وبطنك وفرجك ليسترك به من النار، فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك«.
وبملاحظة انَّ ما يعمل في الخفاء لا شهود عليه فلا يُعرف الاَّ بالاقرار يظهر ايضاً معنى من معاني الحديث القدسي »كل عمل ابن ادم هو له غير الصيام هو لي وأنا أجزي به«. ها هنا شهود تخرق الستر وتبدي ما خفي من عمل وتؤدي بصاحبه الى الجزاء الذي يستحقه.
انَّ الحجاب الذي ضربه الله عز وجل على اللسان والسمع والبصر والبطن والفرج »... ليسترك به من النار« هو نتيجة امتناع هذه الاعضاء كلها عن فعل ستكون عاقبة الشهادة به النار وحتى نصل بأنفسنا واعضائنا الى الاحتجاب عن النار كان افتراض الصوم عليها جميعاً. يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام مبينا نوعي الصوم :
»صوم الجسد الامساك عن الاغذية بارادة واختيار خوفاً من العقاب ورغبة في الثواب والاجر، صوم النفس امساك الحواس الخمس عن سائر الماثم وخلو القلب من جميع اسباب الشر«.
وعلى هذا الاساس، فاذا كان صوم شهر رمضان عن المباحات في غيره، يفيد فيما يفيد به اعتياد النفس وتدريبها على الامتناع عن المحرمات فيه وفي غيره أن تطلبها، وهكذا تدريب واعتياد يشملان اعضاء الجسد فتتخلص ايضا من الاحتياج المكره للنفس على ارادة المحرم في شهر رمضان وفي غيره من الشهور والايام، فكان على الانسان ان يلتفت الى رعاية هذه الاعضاء تأهيلاً لها لتكون عوناً لنفسه لا عدوا لها، ولها بعد ذلك حقوق كما يعلمنا الامام زين العابدين عليه السلام:
».. وحق اللسان إكرامه عن الخنى، وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها والبر بالناس وحسن القول فيهم.
وحق السمع: تنزيهه عن سماع الغيبة وسماع ما لا يحل سماعه.
وحق البصر: أن تغضه عما لا يحل لك وتعتبر بالنظر به.
وحق يدك: أن لا تبسطها الى ما لا يحل لك.
وحق رجليك: أن لا تمشي بها الى ما لا يحل لك، فبهما تقف على الصراط فانظر ان لا تزل بك فتردى في النار. وحق بطنك: أن لا تجعله وعاءً للحرام ولا تزيد على الشبع.
وحق فرجك: أن تحصنه عن الزنا وتحفظه من أن ينظر إليه«.
وهذه الحقوق ترجع في حقيقتها الى الصوم او الإمتناع الخاص بكل واحد من الاعضاء والجوارح عبَّر عنها الامام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام بقوله:
»اذا اصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك من الحرام، وجارحتك وجميع اعضائك من القبيح..« ولذلك كان من دعاء الامام زين العابدين عليه السلام إذا دخل شهر رمضان ».. واعنّا على صيامه بكف الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك حتى لا نصغي باسماعنا الى لغو، ولا نسرع بابصارنا الى لهو، وحتى لا نبسط ايدينا الى محظور، ولا نخطو باقدامنا الى محجوز«.
وكان من كلام الإمام الصادق (ع) عند الشيء من الرزق، إذا تجدد له:
الحمد لله الذي نعمته تغدو علينا وتروح، ونظل نهاراً بمنه ، نبيت فيه ليلاً فنصبح فيها برحمته مسلمين، ونمسي فيها بمنه مؤمنين، من البلوى معافين، الحمد لله المنعم المفضل المحسن المجمل ذي الجلال والإكرام، ذي الفواضل والنعم، الحمد لله الذي لم يخذلنا عند شدة، ولم يفضحنا عند سريرة، ولم يسلمنا بجريرة.
ومن محامده عليه السلام:
"الحمد لله بمحامده كلها، على نعمه كلها حتى ننهي الحمد إلى ما يحب ربي ويرضى".
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد .
قال تعالى في سورة لقمان: { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} الآية 20
تعريف النعمة:
النعمة هي الحالة الحسنة، والإنعام إيصال الإحسان إلى الآخرين من الناطقين وبإزائها الضر وسوء الحال في إحدى ثلاث: نفسه لقلة العلم والفضل والعفة، أو بدنه لعدم جارحة ونقص، أو حال ظاهرة كقلة المال والجاه.
النعم العامة
نعم الله تعالى مبذولة لخلقه آناء الليل وأطراف النهار، ظاهرة وباطنة وهي التي ذكرها المولى في الكتاب العزيز مرتين الأولى في سورة إبراهيم{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 34، والثانية في سورة النحل {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ...} 18. والعَدُّ هو الإحصاء، قال تعالى في سورة الطلاق{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا }1. واعتبار الإحصاء شكراً للنعم تأويل مبني على حذف كلمة بعد قوله تعالى {لا تحصوها} مؤداها شكراً.
واما بيان أنها عديدة ومبذولة للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم، وإنما يتلقاها الإنسان بحسب استعداداته، ويعرفها بقدر معرفته لله فهو ما ذكره الله تعالى في الآية التي صدَّرنا بها الكلام في قوله جل شأنه في سورة لقمان:
ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى أيضاً في سورة الفجر : {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} الآية - 15
وقد قال تعالى في سورة النحل:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ... 83.
فلنلاحظ أن ما ينكر الكافر أنه نعمة الله ليس مطلق الحالة الحسنة لأنه يجدها بالعيان والمباشرة بل إنَّ ما ينكره هو نسبتها إلى الله ، وقد ردّها (الحالة الحسنة) البعض إلى ما عنده من علم كما عرَّفنا القرآن الكريم {أوتيته على علم عندي} .
وبهذا يتبين أيضاً أننا نعرف في أنفسنا أن ما يتحصل لنا عادة أكبر من أن يكون نتيجة مساوية لما نبذل من جهد، بل اننا في كثير من الموارد نتحصل على ما لا نبذل له جهداً مباشراً.
وفوق ذلك فإن الواو في قوله تعالى{ ومن الناس..} دلالة أن إسباغ النعم ظاهرها وباطنها قائم حال أن في الناس المسبغ عليهم من يجادل في الله... وهو بيان عموم أجناس من النعم للمؤمن والكافر.
وهذا النوع من النعم هو الذي نقدر- كبشر- معه على استعمال الموارد الموجودة خارجاً والقوى المودعة فينا قال تعالى في سورة الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 7 ، وهو بيان ما قلناه من أن الإنسان يتلقاها ويستخدمها بحسب استعداده.
وهذا النوع من النعم متعرض للقانون الإلهي العام الوارد في سورة الأنفال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - الأنفال - الآية..} 53.
أخيرا , فإن هذا النوع من النعم يشمل ما يكون ابتداءً من الله وما يكون استجابة للدعاء والمسألة من العباد مؤمنين وكافرين كما قال تعالى:في سورة إبراهيم{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 34 .
فالنعم التي يبتدؤنا الله بها هي التي أسبغها والنعم التي يستجيب لسؤالنا إياه يعطينا منها أي من أفرادها، أو من بعضها دون البعض الآخر إذا تعددت.
وهكذا يتبين أن النعم قد ينقطع بعضها دون بعض بما لا يضر باستمرار حياة الإنسان بالحد الأدنى طالما أراد الله له أن يحيا، وهذه النعم المنقطعة إنما صارت كذلك بتغيير{ ما في أنفسهم} إما بعدم استعمال القوى وإما بعلة أخرى أو بجزء علة وهو بحث يحتاج إلى تفصيل أكثر.
النعم الخاصة بشهر رمضان
وإذا جئنا إلى نعم شهر رمضان الخاصة، وما يوجب الحرمان منها كان علينا أولاً أن نتبينها ثم ننظر في موجبات الحرمان منها أو موجبات التمكين منها وهي على ثلاثة أقسام: تفضلية واستحقاقية ومتحصلة منهما تفضلاً.
نعم شهر رمضان الابتدائية والتفضلية:
وأما النعم التي يحملها شهر رمضان ابتداء كما ذكرتها الروايات فمنها ما جاء في خطبة النبي (ص) في استقبال الشهر "... إنَّه قد أقبل إليكم شهر الله بال...
1.البركة.
2.والرحمة.
3.والمغفرة.
4.ضيافة الله.
5.كرامة الله.
6.أنفاسكم فيه تسبيح.
7.نومكم فيه عبادة.
8.عملكم فيه مقبول.
9.دعاؤكم فيه مستجاب.
10.أبواب الجنان مفتحة.
11.أبواب النيران مغلقة.
12.الشياطين مغلولة.
وفي غير هذه الرواية "أبواب السماء تفتح في أول ليلة من شهر رمضان ولا تغلق إلى آخر ليلة منه " وهذه متعلقة بالتاسعة , " دعاؤكم فيه مستجاب" وذكر الشيخ الطريحي معنى آخر لفتح السماء وهو نزول الرحمة وإزالة المغالق عن مصاعد أعمال العباد.
وفي رواية أخرى عن النبي(ص): "أوله رحمة ،وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار".( الكافي ج4 ص67).
ولا يفهم هذا التقسيم إلا أن يكون متعلقاً بأعشار ثلاثة لرجوع الضمير على الشهر بقوله" هو شهر أوله... أوسطه... آخره" أو أن يحتمل أن الثلاثة متعلقة بإظلال الشهر لقوله في أول الخطبة : " أيها الناس قد أظلكم شهر" فيكون المراد يومه الأول ويتكرر لعموم الرحمة والمغفرة الشهر كلَّه كما في الخطبة الأولى ولا نفهم اختصاص العشر الأول بالرحمة معه دون غيرها منه.
موجبات الحرمان:
وأول ما يتصور من موجبات الحرمان قصر العمر عن بلوغ الشهر والحياة حتى نهايته ومما ورد في الحديث عن أسباب قصر العمر أو مد الأجل .
عن رسول الله (ص): ثلاث ثوابهن في الدنيا والآخرة الحج ينفي الفقر، والصدقة تدفع البلية، وصلة الرحم تزيد في العمر.وعن رسول الله (ص): لا يزيد في العمر إلا البر.
رسول الله (ص): إن القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة فيصلون أرحامهم فتنمي أموالهم وتطول أعمارهم، فكيف إذا كانوا أبرار بررة.
وقال أيضاً: إن الرجل ليصل رحمه وما بقي من عمره إلا ثلاثة أيام فينشئه الله عز وجل ثلاثين سنة، وأن الرجل ليقطع الرحم وقد بقي من عمره ثلاثون سنة فيصيره الله إلى ثلاثة أيام.
عن الإمام علي عليه السلام: بالصدقة تفسح الآجال.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: البر وصدقة السر ينفيان الفر، ويزيدان في العمر،ويدفعان عن سبعين ميتة سوء.
عن الإمام الصادق عليه السلام: يعيش الناس بإحسانهم أكثر مما يعيشون بأعمارهم ويموتون بذنوبهم أكثر مما يموتون بآجالهم.
الإمام الصادق عليه السلام:خففوا الدَين، فإن في خفة الدين زيادة العمر.
فإذا بلغ الإنسان الشهر فما هي موجبات حصول النعم الابتدائية وموجبات الحرمان منها :
أوَّل ذلك الإسلام ويقابله الكفر، والإسلام يكون بغير جهد كالمتولد من أبوين مسلمين او به بعد الكون على غيره وفي كليهما توفيق من الله , أما الأول فإنه من اثأر نعمة الله على من تولدنا منهم بحسن إسلامهم ولو بمعناه المقابل للإيمان وأما الثاني فلأن الإسلام معروض مبلغ به للناس ولكن ليس كلهم يوفق للاعتقاد به والانتقال إليه.
ونحن نعرف وجداناً أن ليس الإسلام وحده كاف مع السلامة في القوى البدنية والنفسية للإتيان بالتكليفات المذكورة .
وسيأتي الكلام عن التوفيق والخذلان لأنهما عامان في أنواع النعم الابتدائية والاستحقاقية وحصول التقوى التي هي الأثر الأعظم الباقي بعد تمام الشهر وهو القسم الثالث الذي عبَّرنا عنه بالمتحصل منهما.
وببلوغ الشهر أحياءً مسلمين نكون أمام التكليف الإلهي في هذا الزمن الخاص سواء كان واجباً خاصاً كالصوم أو عاماَ كالصلاة وكذلك أمام الاستحباب الخاص كالأعمال الواردة بخصوص أيامه ولياليه أو العامة التي تتميز بخصوصية للشهر كقراءة القرآن.
ولا بأس قبل بيان الأسباب من عد هذه الأعمال ولو بنحو تقريبي فمنها كما في خطبة النبي صلى الله عليه وآله الخاصة بشهر رمضان وغيرها:
1- فسلوا الله ربّكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكملصيامه وتلاوة كتابهِ، فان الشقّي مَن حرم غفران الله في هذا الشّهر العَظيم.
واعلموا أنّ الله تعالى ذِكرَه اقسم بعزّته أن لا يعذّبالمصلّين والسّاجدينَ، وأن لا يروعهم بالنّار يَوم يقومالنّاس لربالعالمين
أيهّا النّاس:
17- مَن فطَّر منكم صائماً مؤمناً في هذاالشّهر كانَ لَهُ بذلِكَ عِندَ الله عتق رقبة ومغفرة لما مضى مِنذنوبهِ. قيل: يا رسول الله ولَيسَكلّنا يقدر على ذلِكَ،فقالَ: إتقوا النّار ولوبشقّ تمرة، اتقوا النّار ولو بشربة مِن ماء، فإنّ الله تعالى يهب ذلِكَ الأجر لمنعمل هذا اليسير إذا لَمْ يقدرعلى أكثر مِنهُ.
يا أيهّا النّاس:
18- مَن حسّن منكم في هذا الشّهر خُلقهكانَ لَهُ جواز على الصراط يَوم تزلُّ فيهِ الاقَدْام،
19- ومَن خفّف في هذا الشّهر عماملكت يمينه خفّف الله عَليهِ حسابه
20- ومَن كفّ فيهِ شرّه كفّ الله عَنهُ غضبهيَوم يلقاه
21- ومَن أكرم فيهِ يتيماً أكرمه الله يَوم يلقاه
22- ومَن وصلَ فيه رَحِمَهوصله الله برحمته يَوم يلقاه
23- ومَن قطع فيهِ رَحمه قطع الله عَنهُ رحمته يَوم يلقاه،
25- ومَن أدَّى فيهِ فرضاً كان لَهُثواب مَن أدَّى سبعينَ فريضة فيما سواه مِن الشهّور
26- ومَن اكثر فيهِ من الصلاة عليّثقَّل الله ميزانه يَوم تخف الموازينَ
27- ومَن تلا فيهِ آية مِن القرآن كانَ لَهُ مثلأجر مَن ختم القُرآن في غَيرَه مِن الشهور.
أيها النّاس:
28- إنّ أبواب الجنان في هذاالشّهر مُفتَّحة فَسَلُوا ربّكم أن لا يغلقها عَلَيكُم
29- وأبواب النيران مغلقة فَسَلُواربّكم أن لا يفتحها عَلَيكم
30- والشيّاطين مغلولة فَسَلُوا ربّكم أن لا يسلِّطهاعَلَيكُم .
فقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : فقمتُ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ ما أفضلَالأعمالِ في هذا الشهرِ؟
فقال: يا أبا الحسن أفضلُ الاعمالِ في هذا الشهرِ الورعُعن محارِمِ اللهِ).
فلا بد من الإيمان ومعه كذلك لا بد من استكمال النفس بقدر ٍ ما ليتحصل لنا التوفيق ونبتعد عن استحقاق الخذلان ولنلاحظ أولاً في خطبة النبي (ص) المذكورة و المروية عن الرضا عليه السلام بإسناده إلى أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله (ص) فإنه يقول في مطلعها وهو في شهر شعبان" فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة، وقلوب طاهرة، أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم".
النية الصادقة هي الإرادة المحركة، والقلوب الطاهرة هي القلوب المجلية، النورانية البعيدة عن الأوساخ المادية، وهذه إن وجدت وسئل الله التوفيق أجاب، وإلاَّ فالمقابل كما في الرواية هو الشقاء والحرمان وهما من مصاديق الخذلان المقابل للتوفيق فمن طلب التوفيق طلب ما يكون به العمل، ففي الرواية أن رجلاً سأل الإمام الكاظم عليه السلام أليس أنا مستطيع لما كُلفت؟ قال عليه السلام ما الاستطاعة عندك. قال القوة على العمل، قال عليه السلام قد أعطيت القوة إن أعطيت المعونة، قال الرجل: فما المعونة، قال: التوفيق، قال الرجل: فلم إعطاء التوفيق، قال عليه السلام: لو كنت موفقا كنت عاملاً وقد يكون الكافر أقوى منك ولا يعطى التوفيق فلا يكون عاملاً.
ثم قال عليه السلام أخبرني عنك من خلق فيك القوة؟ قال الرجل: الله تبارك وتعالى، قال عليه السلام: وهل تستطيع بتلك القوة دفع الضر عن نفسك وأخذ النفع إليها بغير العون من الله تبارك وتعالى، قال: لا، قال عليه السلام: فلم تنتحل ما لا تقدر عليه؟ ثم قال أين أنت عن قول العبد الصالح:{ وما توفيقي إلاَّ بالله}.
الموجبات العامة للتمكين والحرمان:
ما هو هذا التوفيق وما هو الخذلان؟ وهل هما عامان في أصل الاتجاه للعمل أو يتخصصان في كل فرد من أفراد الفعل الإنساني؟ وما هي علاقتهما ببعضهما؟
التوفيق والخذلان من الله تعالى للعبد، من صفات المولى سبحانه وتعالى الفعلية، يقول سيدنا الطباطبائي في تفسيره ( ج1 ص 376):
" فالتوفيق هو نظمه الأسباب بحيث تؤدي العبد إلى العمل الصالح، أو عدم إيجاده بعض الأسباب التي يستعان بها على المعصية . والخذلان خلاف ذلك، وعليه فمتعلق التوفيق الأسباب ( لا الإنسان) لأنه إيجاد التوافق بينها، وهي ( الأسباب) المتصفة بها، وأما توصيف العبد به فمن قبيل الوصف بحال المتعلق"
وبما ذكره "قده" يتضح معنى قول سيدنا سليمان المحكي عنه في سورة النمل:{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } 19، فإنه عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام سأله تعالى بقوله ( اوزعني) الكف عن كل شيء إلا هذه الثلاثة والتوفيق لها بالدفع لغيرها وإلهامه الولع بها.
1.شكر النعمة .
2.العمل الصالح المرضي.
3.الدخول برحمة الله في عباده الصالحين.
وفي قوله تعالى:{وأن اعمل صالحاً ترضاه} تنكير للصالح بما يفيد الكثرة وخصَّه أن يكون مرضياً له تعالى بما يعني خلوص نية القربى إلى الله تعالى، وفي استفادة الكثرة هنا يكون أصل الطلب متعلقاً بأصل التوفيق العام لكل فعل مرضي، ولا مانع بعد ذلك ( بالاعتبار الذي تقدم للتوفيق من انه المناسبة بين الأسباب) أن يتعدد التوفيق بتعدد الأعمال فيكون لكل عمل توفيقه الخاص أو خذلانه كذلك. وقد مرَّ في الكلام على مثال تقصير الأجل وتطويله ما يوضح المسألة.
وإذا كان أصل التوفيق العام والخاص من الله عز وجل، وكذلك الخذلان فإنهما أيضاً يرتبطان بالإنسان من جهتين:
الأولى: أنه محل لاستمرار التوفيق بعد وجود أصل الهداية بالجعل الفطري في نفسه وهو ما ذكره الله عز وجل في آيات{ وهديناه النجدين}{ إنا هديناه السبيل}. والآيات كثيرة في هذا المعنى: لكن استمرار التوفيق وتعدده يحتاج إلى عمل ولذلك قال تعالى:{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} يعني يوفقهم إلى السبل المؤدية إلى رضا الله.
وفي هذا المعنى راجع قول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان[1].
وكل هذا لا يمنع أن يكون للإنسان توفيقاً اختيارياً وهو ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام "من التوفيق حفظ التجربة" وقوله عليه السلام " من التوفيق الوقوف عند الحيرة ".
أما الخذلان فإن المصير إليه متعلق كُلُّه بالإنسان، لأننا قلنا إنَّ الخذلان مقابل للتوفيق فكأنه بعد أن يترك الإنسان التوكل على الله ويعتمد على الأسباب المباشرة والعياذ بالله ، فإنه أما أن ينجح في أعماله وتكون صالحة غير فاسدة وتؤدي نتيجتها لكنَّها ستكون غَيرَ مرضيَّة كما مر معنا , وإما أن تكون فاسدة مفسدة، وفي هذا قال رسول الله (ص):" إن المعاصي يستولي بها الخذلان على صاحبها حتى توقعه بما هو أعظم منها".
وإذا كان الأولياء والمعصومون والنبيون يسألون الله التوفيق ليدفعوا به الخذلان، بل إننا وبخصوص نعم شهر رمضان نقرأ لأئمتنا الباقر وزين العابدين عليهما السلام أنهما كانا يدعوان في كل ليلة منه "ووفقني فيه لليلة القدر" أو في دعاء مكارم الأخلاق" ووفقني للتي هي أزكى". فإننا أحوج ما نكون لاستدرار التوفيق خاصة إذا ما علمنا أنهما يتجاذبان الإنسان، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: " التوفيق والخذلان يتجاذبان النفس فأيُّهما غلب كانت في حيِّزه".
بهذا يتبين معنا أن الخذلان من الله والذي نقع فيه بسوء اختيارنا غير المرضي من عملنا هو أهم موجبات الحرمان من نعم شهر رمضان ثم إن وفقنا لبعضها دون بعض فذلك أيضاً بخذلان خاص يتعلق بكل عمل وهو ما يطلب من أثار الأعمال.
ختاماً , نسأل الله تعالى مع سيدنا سليمان :
ربِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
(كلام في الامتحان وحقيقته: لا ريب أن القرآن الكريم يخص أمر الهداية بالله سبحانه غير أن الهداية فيه لا تنحصر في الهداية الاختيارية إلى سعادة الآخرة أو الدنيا فقد قال تعالى فيما قال: الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى : طه - 50 فعمم الهداية لكل شئ من ذوي الشعور والعقل وغيرهم وأطلقها أيضا من جهة الغاية وقال أيضا الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى : الاعلى - 3 والآية من جهة الاطلاق كسابقتها . ومن هنا يظهر أن هذه الهداية غير الهداية الخاصة التي تقابل الاضلال فإن الله سبحانه نفاها وأثبت مكانها الضلال في طوائف والهداية العامة لا تنفى عن شئ من خلقه قال تعالى والله لا يهدى القوم الظالمين : الجمعة - 5 وقال والله لا يهدى القوم الفاسقين : الصف - 5 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة . وكذا يظهر أيضا أن الهداية المذكورة غير الهداية بمعنى إراءة الطريق العامة للمؤمن والكافر كما في قوله تعالى إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا : الدهر - 3 وقوله وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى : حم السجدة - 17 فإن ما في هاتين الآيتين ونظائرهما من الهداية لا يعم غير أرباب الشعور والعقل وقد عرفت أن ما في قوله ثم هدى وقوله والذي قدر فهدى عام من حيث المورد والغاية جميعا ‹ صفحة 32 › على أن الآية الثانية تفرع الهداية على التقدير والهداية الخاصة لا تلائم التقدير الذي هو تهيئة الأسباب والعلل لسوق الشئ إلى غاية خلقته وإن كانت تلك الهداية أيضا من جهة النظام العام في العالم داخلة في حيطة التقدير لكن النظر غير النظر فافهم ذلك . وكيف كان فهذه الهداية العامة هي هدايته تعالى كل شئ إلى كمال وجوده وإيصاله إلى غاية خلقته وهى التي بها نزوع كل شئ إلى ما يقتضيه قوام ذاته من نشوء واستكمال وأفعال وحركات وغير ذلك وللكلام ذيل طويل سنشرحه إن ساعدنا التوفيق أن شاء الله العزيز . والغرض أن كلامه تعالى يدل على أن الأشياء إنما تنساق إلى غاياتها وآجالها بهداية عامة إلهية لا يشذ عنها شاذ وقد جعلها الله تعالى حقا لها على نفسه وهو لا يخلف الميعاد كما قال تعالى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى : الليل - 13 والآية كما ترى تعم بإطلاقها الهداية الاجتماعية للمجتمعات والهداية الفردية مضافة إلى ما تدل عليه الآيتان السابقتان . فمن حق الأشياء على الله تعالى هدايتها تكوينا إلى كمالها المقدر لها وهدايتها إلى كمالها المشرع لها وقد عرفت فيما مر من مباحث النبوة أن التشريع كيف يدخل في التكوين وكيف يحيط به القضاء والقدر فإن النوع الانساني له نوع وجود لا يتم أمره إلا بسلسلة من الأفعال الاختيارية الإرادية التي لا تقع إلا عن اعتقادات نظرية وعملية فلا بد أن يعيش تحت قوانين حقة أو باطلة جيدة أو ردية فلا بد لسائق التكوين أن يهيئ له سلسلة من الأوامر والنواهي الشريعة وسلسلة أخرى من الحوادث الاجتماعية والفردية حتى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوته إلى الفعل فيسعد أو يشقى ويظهر ما في مكمن وجوده وعند ذلك ينطبق على هذه الحوادث وهذا التشريع اسم المحنة والبلاء ونحوهما . ).