شكَّلت قضية وحدة المسلمين السياسية في القرنين الماضيين ركناً مهماً في البناء الفكري للمجددين والنهضويين من علماء الأمة الإسلامية وقادتها، أمثال السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبدو ومحمد إقبال والسيد عبد الحسين شرف الدين والسيد محسن الأمين، ولئن كانت الظروف الموضوعية في تلك السنوات تضع الوحدة الإسلامية أو الجامعة الإسلامية أمراً مقابلاً للتدخل الغربي الإستعماري بمفاسده العظيمة على بلاد المسلمين، فإن الحاجة إلى طرح قضية الوحدة ظلت تتجدد رغم الإستقلال الشكلي لكثير من البقاع الإسلامية وقيام دول وحكومات فيها لأن أصابع المستعمرين لم تقطع بشكل كامل عن التدخل في شؤون المسلمين العامة.
إنَّ لقضية الوحدة الإسلامية جانبها المفهومي أو النظري وجانبها العملي، ولكن الجانب العملي قد طغى لتجدد أسباب طرحه، فيما شكلت قضية الوحدة الإسلامية النظرية والتي تعرّفها نصوص الإسلام بلفظ "الاخوة" القاعدة التي ترتكز عليها الدعوة العملية.منذ الستينات أعلن الإمام الخميني (قده):" يجب أن يكون هدفنا محدداً، انه الإسلام واستقلال بلادنا بطرد عملاء اسرائيل ومن ثم الإتحاد مع الدول الإسلامية". ولم يغفل في ثورته عناوين الرخاء الإقتصادي والتنمية لكنه ربطها كذلك بمصالح العالم الإسلامي فهيأ رضوان الله تعالى عليه في كل مجال ما يعزز قيمة الوحدة الإسلامية في المجتمع الإيراني. شكلت الوحدة الإسلامية معلماً بارزاً في خط الإمام الخميني منذ بدايات حركته السياسية والإجتماعية، ولذلك يمكن تتبعها في طول حركته وفي أطر متعددة قد لا يحصرها المصطلح، إذ كان (قده) يحيا هذه القضية في بعدها النظري - التكليفي الشرعي - من جهة، وبالنظر إلى الآثار الواقعة على إيران والعالم الإسلامي من جهة التصديق لقوله تعالى {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}. ويمكن كذلك تتبع منهج خاص للإمام الخميني(قده) في فهم الوحدة الإسلامية، يجمع بين فهم المذاهب الإسلامية كمدارس فقهية يمكن التقريب بينها على المستوى العلمي، وبين وحدة الأمة ككيان سياسي يقابل الأجانب عن هذه الأمة ومصالحها.
وغير بعيد عن هاتين النقطتين يمكن الكلام عن إحياء الإمام للخطاب الإسلامي الإنساني الذي يرى وحدة المنشأ البشري، ويواجه النزاعات العنصرية والإستعلائية التي قدمتها نماذج فلسفية وسياسية غربية بررت الإستعمار العسكري والإستيلاء على مقدرات الشعوب، ووجدت لها في عالمنا الإسلامي أتباعاً وعملاء.وهي نماذج عايشها الإمام بآثارها السياسية في العالم الإسلامي وغيره من أوروبا إلى جنوب أفريقيا على مدى عقود وأعوام متمادية.
الوحدة الإجتماعية:
واجه الإمام الخميني (قده) على المستوى الداخلي الإيراني سعياً حثيثاً لدى السلطة الشاهنشاهية لاستخدام التنوع العرقي والمذهبي أداة لتشكيل تفاوت إجتماعي وتخالف مصلحي يؤدي إلى إبقاء السيطرة على الأوضاع العامة في مناخ عدائي بين أفراد الشعب، وقد عمل الإمام ودعا إلى وحدة الشعب الإيراني قبل انتصار الثورة وبعدها، مؤسساً لروح وحدوية في كل المجالات التي يتوهم الناس فيها التعدد المتنافر عادة، كما في التعدد العرقي: فرس وترك وكرد وبلوش وعرب، أو في التعدد الفكري ومصادره: حوزة وجامعة، وفي هذا المجال قال الإمام(رحمه الله): "إني أمد يدي وبمنتهى التواضع نحو جميع التجمعات العاملة لخدمة الإسلام، طالباً إليهم السعي لتحقيق الإتحاد فيما بينهم في جميع المجالات، وذلك من اجل بسط العدالة الاسلامية التي تمثل الطريق الوحيد لتحقيق السعادة للشعب.لقد بذلت -وما زلت- قصارى جهدي من اجل تحقيق الوحدة بين مختلف طبقات الشعب المسلم، وأسأل الله تعالى العون لتحقيق هذا الأمر والذي يعتمد عليه وجود الشعب وبقاؤه."
وقد أكد انتصار الشعب الإيراني هذه النظرية: الوحدة تُقدّم الإنتصار والإستقلال والعزة.
الوحدة الدينية:
إعتقد الإمام بأن الخلاف المذهبي بما هو اختلاف علمي يبقي الإسلام بل يغنيه على هذا الصعيد ولم يتعارض هذا الإعتقاد عنده بالتمسك بالمذهب مع وجود الروح الإسلامية، وقد أثر الإتجاه العرفاني للإمام بتقوية شعور المحبة للمسلمين أينما كانوا والتعاطف البالغ مع قضاياهم كافة. وفي هذا المجال يمكن ملاحظة اهتمام الإمام (ره) وكلامه على مستويين: الأول الوحدة بما هي أخوة أنشأها القرآن الكريم، والثاني الوحدة بما هي قوة تصون الإسلام وتحفظ الأمة مما يراد بها من أعدائها. "إن القرآن الكريم يحكم بأن جميع المؤمنين في العالم هم أخوة والأخوة متكافئون". إن الأخوة الإسلامية منشأ لكل الخيرات، لقد بلغتم ما بلغتم بالمحافظة على الأُخوّة وبها تبلغون ما هو أسمى أيضاً.
لقد ذكرت مراراً أن لا أهمية للعنصر والقومية والإقليم في الإسلام، فجميع المسلمين سنة كانوا أم شيعة هم أخوة متكافؤون، متساوون في المزايا والحقوق الإسلامية، وأنه ليس في الإسلام سني وشيعي، أو كردي وفارسي فالكل أخوة".
وقد ظهر هذا العنوان عملياً في التآخي بين أفراد الشعب الإيراني أثناء الثورة وبعد الإنتصار ظهرت أخوة الشعب المسلم في إيران مع بقية شعوب العالم الإسلامي كما كانت من قبل.
أما على المستوى الثاني أي الوحدة بما هي قوة تصون الإسلام وتحفظ الأمة فهنا يمكن رؤية الإمام ليس منخرطاً فقط في مشروع توحيد الأمة وحفظ مصالحها بل متماهياً في هذا المشروع. لقد وعى الإمام مخاطر ومؤامرات الإستعمار وربيبته إسرائيل وعمل على إيقاظ الأمة وتحذيرها من أنه لا عزة ولا تنمية ولا تقدم لها بدون معالجة هذا الجرح والتنبه لآثاره على العالم الإسلامي بل على العالم كله، معتقداً بضرورة ربط المشاريع التغييرية في أي جزء من أجزاء العالم الإسلامي بقضية فلسطين وهذا ما كان يظهر في خطبه ضد الشاه وحكومته وعلاقته بإسرائيل بل تسخيره ثروات البلاد لخدمة الكيان الغاصب وهو ما نجد شبيهاً له في عالمنا العربي والإسلامي اليوم بقوة. قال الإمام (قده):" لقد حذرت مراراً من خطر إسرائيل وعملائها، ولن ترى الأمة الإسلامية السعادة إلا بعد أن تقتلع جرثومة الفساد هذه من أصلها. إن من اسباب ثورة الشعب المسلم في إيران على الشاه دعمه لإسرائيل الغاصبة." واستمر الإمام والقيادة الإسلامية الإيرانية بدعم الثورة الفلسطينية والإنتفاضة الشعبية بعد خلع الشاه وإلى يومنا الحاضر. وفي مجال حفظ ثروات العالم الإسلامي وجعلها في خدمة الأمة قال الإمام (ره):"يا مسلمي العالم الذين تملكون إيماناً بحقيقة الإسلام انهضوا واجتمعوا تحت راية التوحيد وفي ظل تعاليم الإسلام، واقطعوا أيدي الخونة المستكبرين عن أوطانكم وعن خزائنكم وأعيدوا مجد الإسلام ودعوا الخلافات والأهواء النفسانية فأنتم تملكون كل شيء."
الوحدة الإنسانية:
إن من أبرز ما انتجه الإمام الخميني (قده) في ثورته إحياء الخطاب الإسلامي الإنساني، فمعه عادت مصطلحات "المستكبرين" و "المستضعفين" و "الدفاع" و "النصرة" و "المساواة". وكما في عمله لاستبعاد قيم ومفاهيم التعصب المذهبي والعرقي بين المسلمين مقدمة لكسر الحواجز, التي أرادها الإستعمار وأدواته عائقاً يمنع شعوب الأمة الإسلامية من الإنفتاح والتكامل السياسي والتنموي بتسخير قدراتهم وثرواتهم لحل مشاكلهم الإجتماعية، وجدنا الإمام (قده) متعاطفاً مع قضايا عالمية تحت عنوان نصرة المستضعفين من غير المسلمين في وجه المستكبرين , الذين يسعون ويعملون على تدمير إنسانية الإنسان وبغض النظر عن عرقه ولونه وموطنه. إن العنصرية النازية والجنوب أفريقية والصهيونية وإرهاصات العولمة التي عاش الإمام آثارها المدمرة على الشعوب، كانت دافعاً لأن يركز الإمام ومن موقعه الإسلامي والعرفاني في دعوته وعمله على الإتجاه المعارض والنابذ لكل الأفكار والأعمال المؤسسة والفاعلة تحت مفاهيم التعصب المقيت والعنصرية الإضطهادية.
كما ركز على بيان موجبات الوحدة والمساواة وحفظ الكرامة الإنسانية. في هذا المجال يمكن ملاحظة نصوص الامام الموجهة الى البابا ورجال الدين المسيحيين، وكذلك الى القوى المناهضة للاستكبار والاستعمار، واستقباله لقوى التحرر في العالم وتعاونه معها.
المفهوم الواحد:
أخيراً، إن هذه العناوين الثلاثة كمفاهيم متشابكة تعطينا صورة عن مفهوم الوحدة الإسلامية في خط الإمام الخميني(ره)، وتصير عناوين أخرى كدعوته إلى الإلتزام بصلاة الجماعة في موسم الحج خلف الإمام المخالف في المذهب، أو إحياؤه لأسبوع الوحدة الإسلامية، أو تبنيه لتجمع العلماء المسلمين في لبنان من السنة والشيعة أو دفاعه عن قضايا المستضعفين في العالم، وكذلك رفض اعتبار السنة في إيران أقلية دينية، تفاصيل يمكن ملاحظة كثير أمثالها.وهذا الخط الذي انتهجه (قده) أثمر في خارج إيران كما أثمر في داخلها لخروجه من المصالح القطرية الضيقة، ولقد كان لنا في لبنان وفلسطين خصوصاً استجابة وتأثر بالغين لما لمسناه من صدق وصوابية في النظر.
ولم تنحصر الإستجابة والتأثر بالقوى الإسلامية بل تجاوزتهما إلى القوى الوطنية والقومية. إن شعار الوحدة الإسلامية الذي تداخل في كل الأمور المطروحة كهموم لأفراد الأمة صار مقبولاً حتى عند أصحاب العقائد غير الإسلامية.
وساهم النموذج الذي قدمه الإمام الخميني في قبول الإسلام كمعطى حضاري عند هؤلاء يقبل الإختلاف ويساهم في رفع مستوى المواجهة مع أعداء الشعوب الداخليين والخارجيين. ولذلك وجدنا قابلية وفعلية التلاحم الوطني في لبنان بمواجهة إسرائيل والفساد الداخلي بين القوى الإسلامية والوطنية على تنوعها.
إن الخطر الأكبر على الوحدة الإسلامية أو الوحدة الوطنية يبقى هو ذاته حكم الطغاة وإسرائيل وعملائها، ولم تمر علينا في لبنان لحظة انقسام وتفتت إلا وكانا وراءها بشكل أو بآخر سواء على المستوى الوطني العام أو على مستوى شرائح طائفية أو حزبية.
ونحن اليوم مدعوون مجدداً للإستفادة من تجاربنا وإعادة الوحدة باعثاً وهدفاً في حركتنا الجهادية والنضالية وإلا فإننا نضع بيدنا الحواجز والعوائق في طريق النصر والعزة. وأخيراً سلام الله على الإمام الخميني موحّداً بكل معاني الكلمة، والسلام على العلماء السائرين في نهج التوحيد والوحدة ورحمة الله وبركاته.والحمد لله رب العالمين
• محاضرة ألقيت بتاريخ31/3/2008 في مركز الإمام الخميني الثقافي - بيروت *بمناسبة الذكرى السنوية لارتحاله قدس سره الشريف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق